أصبحت الهجمات التي تغلب عليها المعلومات المُضللة ضد الصحفيين ووسائل الإعلام التي تخدم المصلحة العامة جزءًا أساسيًا من أدوات الأنظمة الاستبدادية في القرن الحادي والعشرين. ويعمد بعض السياسيين إلى فرض روايتهم الخاصة من خلال زرع الشكوك في الحقائق، وبعد ذلك تُنشر المعلومات المُضللة عبر منصات وشركات التكنولوجيا الكبرى، مما يفسد النظام المعلوماتي ويؤثر بشكل خطير على الديمقراطية.
قام مشروع مكافحة المعلومات المُضللة التابع للمركز الدولي للصحفيين برسم خريطة لهذا الدليل في خمس دول، وهي: البرازيل، وجورجيا، والفلبين، وجنوب إفريقيا، والولايات المتحدة. وكجزء من هذا العمل، درسنا عن قرب جهود بعض المؤسسات الإعلامية البارزة في مواجهة المعلومات المُضللة بطرق مبتكرة، وأجرينا استطلاع رأي في الدول الخمس لكي يساعدنا على فهم كيفية تأثير هذه الهجمات على تصورات الصحفيين ووسائل الإعلام التي تخدم المصلحة العامة في كل وسيلة إعلامية، لأننا نريد أن نفهم كيف يُمكن للمدافعين عن الحقيقة الرد بفعالية أكبر.
وفي شهر مارس/آذار، نشرنا أول دراسة في إطار هذا المشروع وهي بعنوان: تفكيك المعلومات المُضللة في البرازيل. ويُمكن اعتبار هذا البلد الشاسع، الذي لا يزال يتعافى من رئاسة جايير بولسونارو الاستبدادية، نموذجًا ملهمًا في تبني أساليب مُبتكرة للدفاع عن نزاهة المعلومات وسط طوفان من الأكاذيب.
لإجراء هذه الدراسة، رافق أعضاء من فريق العمل صحيفة Folha de S. Paulo، والتي تُعد من أبرز الصحف في البرازيل. وسافروا عبر نهر الأمازون بالقارب للوصول إلى المجتمعات التي تغطيها Tapajós de Fato، وهي مجموعة إخبارية رقمية صغيرة، وذلك لفهم كيف تصل جهود مكافحة المعلومات المُضللة إلى تلك المناطق النائية.
من بين النتائج الرئيسية التي توصلنا إليها: أنّ حملات التشهير ضد الصحافة تعرقل إجراء التحقيقات وتغطية الانتخابات، خاصة في ظل غياب بروتوكولات أمنية كافية، مما يؤدي إلى زيادة المخاطر التي يتعرض لها الصحفيون. وفي وسائل الإعلام المستقلة الصغيرة، على وجه الخصوص، غالبًا ما يفتقر الصحفيون إلى الحماية الجسدية والقانونية والنفسية اللازمة لمواجهة هذا النوع من الهجمات الهجينة.
من جانبه، يتذكر الصحفي جواو باولو دي سوزا من منصة João Paulo de Souza ما تعرض له قائلاً: "كنت خائفًا جدًا وتعرضت لنوبات قلق، فلقد مكثت في المنزل لستة أيام على الأقل ولم أغادره"، وأضاف: "منذ أن بدأت عملي كصحفي، لم أتمكن من زيارة والدتي التي تعيش بالقرب مني طوال عام كامل، فأنا أريد حمايتها وحماية عائلتي بأكملها".
ويواصل صحفيو Tapajós de Fato عملهم على الرغم من المخاطر الجسيمة التي تواجههم، فهم يتعاونون بشكل وثيق مع منظمات المجتمع المحلي وذلك من أجل تعزيز تأثيرهم وبناء الثقة مع السكان الأصليين في الأمازون، الذين يجدون صعوبة في الوصول إلى معلومات موثوقة، مما يجعلهم أكثر عرضة للمعلومات المُضللة، كما تستهدف هذه المجتمعات أيضًا حملات مُضللة والتي تصورهم على أنهم غير منتجين، وهي روايات تُروّج لها شركات تسعى للاستيلاء على أراضيهم.
وتعتمد صحيفة Folha على أساليب مشابهة لبناء المجتمع من خلال استخدام أنشطة مبتكرة في مجال التربية الإعلامية، ويستند نهجهم في مراقبة ما إذا كانت المنصات الرقمية تلتزم بقواعدها الخاصة (إذا كانت قائمة) وذلك من أجل مواجهة المعلومات المُضللة، وتتبع تطور الجهود التنظيمية وجماعات الضغط، والتعامل المباشر مع مصادر التضليل. وأضافت كامبوس ميلو من صحيفة Folha: "هل يجب علينا القيام بمراقبة ما تفعله هذه المنصات؟ ماذا يقول القانون بهذا الشأن؟ وكيف تنتشر المعلومات المُضللة بسرعة؟"، وجاءت هذه الأسئلة في سياق عمل المنصة في عدم الاكتفاء بفهم السياق السياسي للمعلومات المُضللة فقط، وهو ما أوضحته قائلةً: "نرصد أيضًا الشخصيات العامة التي تنشر هذا النوع من المحتوى المُضلل على وجه التحديد".
وقد كشف استطلاع الرأي الوطني الذي أُجري أغسطس/آب 2024، وطُبق على عينة قوامها 1003 من المشاركين، أن غالبية البالغين في البرازيل (58%) يشعرون بقلق بالغ إزاء مواجهة المعلومات الكاذبة أو المُضللة. وتشير هذه النتيجة إلى وجود فرصة لتقديم محتوى صحفي مُوجه يعالج هذا القلق المتزايد، لكنها تُبرز أيضًا الحاجة إلى توعية الأقلية غير المهتمة بحجم المخاطر الحقيقية.
ومما يُعقّد هذه الجهود أن استطلاع الرأي كشف أن 74% من البالغين في البرازيل سبق أن صادفوا هجمات تستهدف صحفيين أو مؤسسات إعلامية، بدت وكأنها تهدف عمدًا إلى تقويض مصداقيتهم. وهذا يشير إلى تعرضهم بشكل كبير لحملات تشويه تهدف إلى زعزعة الثقة في التقارير، وتعليقاتهم المستنيرة. وربما يُفسر هذا السبب عدم اعتبار ثلث البرازيليين (33%) الهجمات السياسية على الصحفيين تهديدًا كبيرًا لحرية الإعلام.
وبالإضافة إلى مبادرات التربية الإعلامية والمعلوماتية، والمشاركة المجتمعية الهادفة، والتقارير الاستقصائية التي تكشف حملات التضليل ومروّجيها، لذلك تُعد الجهود التحريرية التي تساعد الناس على فهم المخاطر الكامنة عند تقاطع الديمقراطية وحرية الإعلام والمعلومات المُضللة ضرورة لا غنى عنها.
ست نتائج من تقرير "تفكيك ومواجهة المعلومات المُضللة في البرازيل:
(1) تستخدم المعلومات المُضللة كأداة عنف ضد الصحفيين في البرازيل، خاصة أولئك الذين يكشفون الروايات الكاذبة، مما يُسهم في تأجيج بيئة مليئة بالمخاطر.
وتتضمن حملات التضليل المُنسقة حملات تشويه ضد الصحفيين والتي تهدف إلى تقويض الثقة في تقاريرهم الصحفية المُستندة إلى الحقائق، مما يُعرّضهم للعديد من المخاطر. وقد أشار الأشخاص الذين تمت مقابلتهم إلى أنهم تعرضوا لتهديدات بالعنف الجسدي، وهجمات على ممتلكاتهم وحيواناتهم الأليفة. ويؤجج هذا التهديد الروايات المُنتشرة المُناهضة للصحافة، وحملات التشهير، والعنف القائم على النوع الاجتماعي المدفوع بالتكنولوجيا (TFGBV).
2) تُستخدم استراتيجيتان لمكافحة التضليل الإعلامي: تجنّب ما يُعرف بـ"الحياد الزائف" الذي يُساوي بين الحقيقة والافتراء، وتسمية الكذب كذبًا بشكل صريح.
هناك تُوجه لإعادة صياغة مفهوم الموضوعية من أجل تجنب التوازن الزائف في التغطية الصحفية، ويشمل هذا التوجه إرشادات تحريرية حديثة تستخدم لغة أكثر صدقًا، مثل وصف تعمد السياسيين نشر المعلومات الكاذبة بأنها "كذب".
(3) يتميز عمل منظمة Tapajós de Fato المبتكر في مكافحة المعلومات المُضللة بالاعتماد على "الاستماع العميق" والمشاركة المجتمعية الفعّالة، مع التركيز على القضايا والمجتمعات التي لا تغطيها وسائل الإعلام التقليدية.
يدير هذا الجهد صحفيون وُلدوا أو نشأوا في منطقة الأمازون، وقد استفادوا من علاقاتهم مع قادة الحركات الاجتماعية لمواجهة المعلومات المُضللة حول المناخ، وذلك من خلال عقد جلسات استماع تفاعلية وغامرة مع السكان لفهم التغيرات البيئية التي لاحظوها، وكيف أثّرت على مصادر رزقهم.
(4) الاستراتيجيات المتنوعة لمكافحة المعلومات المُضللة والخاطئة أكثر فعالية من الأساليب المنفردة.
يعتبر ربط الاستراتيجيات التحريرية بالشراكات، وطرق توزيع المحتوى المُبتكرة، وأنشطة التربية الإعلامية أمرًا بالغ الأهمية لمواجهة المعلومات المُضللة في بلد بحجم قارة، وسكانه متنوعون، ويعيش الكثير منهم في مناطق نائية.على سبيل المثال، يُمكن للشراكات الاستراتيجية مع الجامعات أو منظمات المجتمع المدني سد فجوات الموارد.
(5) ويُعد استخدام الوسائل منخفضة التقنية استراتيجية ضرورية للوصول إلى المجتمعات ذات الاتصال الضعيف، والتي تكون أكثر عُرضة للمعلومات المُضللة.
وتقوم منظمة Tapajós de Fato بتوزيع محتوى صوتي على أقراص USB بالقوارب إلى المجتمعات غير المتصلة بالإنترنت في المناطق النائية. ويُتيح تكوين الشراكات مع محطات الإذاعة المحلية في منطقة الأمازون بث هذه المعلومات عبر مكبرات الصوت.
(6) تُعد برامج التنوع والمساواة والشمول (DEI) جزءًا أساسيًا من استراتيجيات مكافحة المعلومات المُضللة.
وتشمل هذه التوصيات تنفيذ برامج تدريبية لمعالجة نقص الصحفيين غير البيض في غرف الأخبار، وتشكيل فرق عمل تتكوّن بالكامل من أشخاص وُلدوا في المناطق التي تغطيها غرفة الأخبار. فعندما تعكس فرق التحرير تنوّع المجتمعات التي تخدمها، تزداد احتمالية كسب ثقتها.
ولقد حددنا في المجمل 19 نتيجة رئيسية و15 توصية للعمل في البرازيل. ويُمكنكم الاطلاع على النتائج والتوصيات بالتفصيل من خلال الضغط هنا.
حصل بحثنا "تفكيك ومواجهة المعلومات المُضللة" على تمويل أساسي من مؤسسة سكريبس هوارد، إلى جانب الحصول على دعم لأبحاث الرأي العام من خلال الصندوق الدولي للإعلام المعني بالمصلحة العامة (IFPIM) ومؤسسة غيتس، وقد نُشرت دراستنا بالشراكة مع جامعة سيتي.
ساهم باحثو مشروع تفكيك ومواجهة المعلومات المُضللة: نبيلة شبير، وقاص إعجاز، وكايلي ويليامز، ونرمين أبو العز في كتابة هذه المقالة.