كيف تُشكل الصحافة المجتمعية مستقبل الأخبار؟

Jan 9, 2025 في إشراك الجمهور
الصورة تُعبر عن الصحافة المجتمعية

تواجه الصحافة أزمة في الكثير من أنحاء العالم، وتتمثل التحديات التي تمر بها في النموذج المالي غير المُستقر، وتراجع مستويات ثقة القراء، وتزايد تجنُب الأخبار. 

وفي ظلّ هذه الأجواء المضطربة، تبرز أهمية دور الصحافة التي تركز على المجتمع كوسيلة مُحتملة لمعالجة العديد من التحديات. ويركز هذا النموذج، الذي استعرضته في تقريرين منفصلين خلال العام الماضي لصالح مركز أجورا للصحافة، على إنتاج الأخبار من خلال التعاون مع المجتمعات ومن أجلها، بدلاً من مجرد الاكتفاء بإجراء التغطيات الصحفية عنها.

وللقيام بذلك، ينبغي الابتعاد عن النموذج التقليدي لجمع الأخبار وتوزيعها من أعلى إلى أسفل. وبدلاً من ذلك، يُطلب من الصحفيين بناء روابط عميقة مع المجتمعات، والاستماع إليها لفهم احتياجاتها من المعلومات، بالإضافة إلى إشراكها في جميع مراحل عملية صناعة الأخبار. ومن خلال القيام بذلك، تُوفر الصحافة المجتمعية الفرصة لتعزيز نموذج إعلامي أكثر شمولاً وتأثيرًا، وتركيزًا على تقديم الخدمة العامة.

وإليك أبرز ما تحتاج لمعرفته عن الصحافة التي تركز على المجتمع، وكيف يمكن لغرف الأخبار تبني هذا النهج التحويلي.

ما هي الصحافة التي تركز على المجتمع؟
تُركز الصحافة المجتمعية في جوهرها على إنتاج الأخبار من أجل المجتمعات وبالتعاون معهم بدلاً من مجرد الاكتفاء بإجراء التغطيات عن تلك المجتمعات. ويهدف هذا النمط أيضًا إلى معالجة التفاوتات المستمرة في الصحافة من خلال تسليط الضوء على أصوات الفئات غير المُمثلة بشكل كافٍ، والتركيز على الاحتياجات الحقيقية للمعلومات لجمهور يتسم بالتنوع في خصائصه وخلفياته. ويتضمن هذا النهج الاستماع العميق، والتعاون النشط، والالتزام بإعادة تشكيل الممارسات التقليدية لإعداد التغطيات الصحفية.

على النقيض من الصحافة التقليدية التي تتبنى غالبًا الهيكل الهرمي في التحكم بالمعلومات، تقوم الصحافة المجتمعية بتغيير ديناميكيات القوة، وذلك من خلال تقدير مساهمة المجتمع في كل مرحلة من مراحل العملية الصحفية، بدءًا من تحديد فكرة القصة الصحفية، مرورًا بطريقة السرد القصصي، ووصولاً إلى عملية توزيعها.

ويُعيد هذا النهج التعاوني تعريف العلاقة بين الصحفيين والمجتمعات التي يخدمونها وذلك من خلال الاستماع العميق، وبناء العلاقات، والمشاركة المجتمعية الفعّالة. ومن خلال تعزيز الثقة والشفافية، يُمكن للصحافة المجتمعية إعادة بناء العلاقات مع الجماهير التي قد تشعر بالعزلة من قبل وسائل الإعلام السائدة.

وتشمل المبادئ الأساسية للصحافة المجتمعية ما يلي:

  1. التركيز على احتياجات المجتمع من المعلومات.
  2. تسهيل بناء الحوار وتعزيز التفاهم.
  3. بناء الثقة وتعزيز المساواة.
  4. تبني عقلية "الانتماء والخدمة".
  5. خلق ممارسات صحفية متبادلة بدلاً من الممارسات الاستغلالية.

ومن خلال التركيز على هذه المبادئ، تهدف الصحافة المجتمعية إلى إنتاج محتوى إعلامي أكثر صلة وموثوقية وتأثيرًا، ويُلبي احتياجات المجتمع بشكل حقيقي.

لماذا نحتاج إلى الصحافة التي تركز على المجتمع؟
لا تُقدّم الصحافة المجتمعية حلولاً لكل المشكلات التي تواجهها الصحافة اليوم، ولكنها قد تلعب دورًا في معالجة بعض من أبرز تحدياتها، وذلك على النحو التالي:
(1) إعادة بناء الثقة
إنّ الثقة في الصحافة في العديد من البلدان وصلت إلى أدنى مستوياتها التاريخية أو تقترب منها. ووفقًا لتقرير الأخبار الرقمية لعام 2024، ذكر 40% فقط من المشاركين على مستوى العالم أنهم يثقون في معظم الأخبار. وتُقدّم الصحافة المجتمعية حلاً مُحتملاً لهذه المشكلة من خلال إعطاء الأولوية للشفافية، والتمثيل العادل، والملاءمة، مما يُسهم في تعزيز شعور المجتمعات بأنها مرئية، ومسموعة، وتحظى بالتقدير.
(2) التعامل مع تجنُّب الأخبار
يلجأ الكثير من الناس إلى تجنُب متابعة الأخبار عن قصد، وذلك لأنها تبدو غالبًا غير ذات صلة بهم أو مُفرطة في السلبية. وتواجه الصحافة المجتمعية هذا الأمر من خلال التركيز على تقديم تقارير تُعالج المخاوف الحقيقية للمجتمع، وتلبية احتياجاته من المعلومات.
(3) تعزيز الاستدامة
ومن خلال مواءمة الصحافة مع احتياجات المجتمع، يُمكن للصحافة المجتمعية مساعدة غرف الأخبار في اكتشاف شرائح جديدة من الجمهور، ومصادر دخل غير مُستغلة.
قد يكون من السهل تأمين الشراكات، والمنح، ونماذج العضوية عندما تُظهر غرفة الأخبار تأثيرًا ملموسًا على المجتمع.
علاوة على ذلك، يُمكن أن تُسهم الصحافة المجتمعية أيضًا في تعزيز المشاركة المدنية من خلال تزويد المجتمعات بمعلومات ذات الصلة وقابلة للتطبيق.
(4) تعزيز الابتكار
تُشجع الصحافة المجتمعية على تجربة تنسيقات جديدة، ومنصات متنوعة، وأساليب مختلفة في السرد القصصي، مما يُمكّن غرف الأخبار من تقديم خدمات أفضل للجمهور أينما كانوا، كما تُعزز التنوع والشمول في التغطية الإخبارية، وهو أمر ضروري للغاية.

Text

صورة الغلاف لكتاب إعادة تعريف الأخبار: بيان للصحافة المُرتكزة على المجتمع.

كيفية ممارسة الصحافة التي تركز على المجتمع
يتطلب التحول إلى نهج الصحافة المجتمعية تغييرًا في العقلية، والممارسات، والأولويات للعديد من الصحفيين وغرف الأخبار. وعلى وجه التحديد، هناك خمس مراحل ينبغي دمجها بوضوح في أسلوب العمل وآلياته.
(1) فهم احتياجات المجتمع
إنّ جوهر الصحافة المجتمعية يعتمد على معرفة ما يهتم به جمهورك. وهناك بعض الأدوات مثل استطلاعات الرأي المجتمعية، وجلسات الاستماع، ومجموعات النقاش المُركزة التي تساعد في الكشف عن هذه الاحتياجات. وعلى سبيل المثال، استخدمت منصة El Tímpano، ومقرها أوكلاند، مبادرة استماع لمدة تسعة أشهر لتحديد القضايا الرئيسية للمهاجرين اللاتينيين، وذلك قبل إطلاقها، مما أدى إلى إنتاج محتوى يُعالج مخاوفهم بشكل مباشر، وقد تبنت منصات أخرى نهجًا مشابهًا قائمًا على الاستماع العميق.
من جانبها، قالت إيف بيرلمان، الرئيسة التنفيذية والمُؤسسة المُشاركة لمنصة Spaceship Media: "إنّ التواضع والوعي عنصران مُهمان في القيام بعمل جيد في الصحافة المُرتكزة على المجتمع"، مضيفةً: "كُن صادقًا في فضولك حول ما لا تعرفه، أو لا تراه، وما إلى ذلك. رؤيتك، وقيمك، وأفكارك ليست الطريقة الوحيدة أو الصحيحة دائمًا".
(2) رسم خرائط لنظام المعلومات في المجتمع
يعتبر فهم كيفية تدفق المعلومات داخل المجتمع أمرًا ضروريًا.
ولم تعد المؤسسات الإعلامية المصدر الوحيد للمعلومات التي تعتمد عليها المجتمعات، ولذلك، ينبغي على غرف الأخبار تحديد المُؤثرين الرئيسيين، والأماكن العامة مثل المكتبات أو المقاهي، والمنصات الرقمية التي يتبادل من خلالها الناس الأخبار ويستهلكونها. ويُمكن أن تساعدهم تقنية رسم خرائط الأصول المُستوحاة من أساليب التنمية المجتمعية في تحديد هذه النقاط المحورية.
استلهم أفكارك من مشروع Up the Block التابع لمؤسسة The Trace، والذي أنشأ قائمة موارد- باللغتين الإنجليزية والإسبانية - لسكان فيلادلفيا بناءً على ملاحظاتهم واحتياجاتهم بعد حوادث العنف المسلح.
(3) الوصول إلى المجتمعات في أماكن تواجدها
لا تقتصر الصحافة الفعّالة على المحتوى الذي تنشره فحسب، بل تتعلق أيضًا بكيفية توزيعه والأماكن التي يصل إليها. وسواء كان ذلك من خلال مجموعات واتسآب أو غرف الأخبار المؤقتة في المكتبات أو خدمات الرسائل القصيرة، فإنّ الوصول إلى الجمهور عبر منصاتهم المُفضلة - سواء كانت مساحات فعلية أو رقمية - يُعزز تفاعلهم ويساعد في بناء الثقة والشفافية.
وتُجسّد غرفة الأخبار Outlier Media في ديترويت هذا النهج من خلال استخدام الرسائل النصية لتوصيل معلومات حيوية للمجتمعات المُهمشة. وتُعتبر TXT OUTLIER خدمة رسائل نصية قصيرة والتي لا تُقدّم معلومات مهمة  لسكان ديترويت فحسب، بل إنها تسمح أيضًا للناس بالتواصل المباشر مع الصحفيين. 
وبالمثل، أطلقت Greater Govanhill، وهي مجلة مجتمعية متعددة اللغات حائزة على جوائز، وتخدم منطقة Govanhill في جلاسكو باسكتلندا، غرفة أخبار مُجتمعية لجعل صحافتها أكثر وصولاً وتفاعلاً.

Text

الصورة مُقدمة من مؤسسة أخبار المصلحة العامة.

(4) الالتزام بسرد القصص المتنوعة
تُلزم الصحافة المجتمعية غرف الأخبار بإشراك المجتمعات في سرد ​​القصص، لضمان تنوع وجهات النظر والأصوات ووضعها في صميم الممارسات الصحفية. ولتحقيق ذلك الأمر، قامت بعض المؤسسات بتنفيذ آليات متنوعة مثل إنشاء مجالس استشارية مجتمعية، أو جلسات استماع مثل "ThinkIns" من Tortoise Media.
وكما أخبرتني كانديس فورتمان، وهي زميلة في مؤسسة ISK والمديرة التنفيذية السابقة لغرفة أخبار Outlier Media ​​أثناء مقابلتي لها ضمن هذه السلسلة من التقارير، فإنّ الصحافة ينبغي أن تتجاوز مجرد السعي نحو الحصول على الجوائز أو جذب النقرات، لتكون أكثر توجهًا نحو خدمة المجتمع. ولضمان توافق جميع أجزاء عملك في نفس الاتجاه، فإنّ هذا يتطلب ملاءمة الأهداف التحريرية مع استراتيجيات العمل واحتياجات المجتمع. وهذا التكامل الثلاثي يُعد أمرًا ضروريًا  لتحقيق النجاح على المدى الطويل.

(5) التركيز على الحلول والإيجابية
في حين تُسلط الصحافة التقليدية الضوء على المشاكل غالبًا، قد تتبنى الصحافة المجتمعية أسلوبًا أكثر تركيزًا على الحلول في إعداد التقارير. ومن خلال سرد قصص تُبرز صمود المجتمع وقدرته على الإبداع، يُمكن للصحفيين تعزيز الشعور بالفخر والأمل.
على سبيل المثال، استخدم مشروع "قصص مدينة أتلانتيك سيتي" أسلوب السرد التصالحي للاحتفال بقوة المجتمعات المحلية، مُتحديًا بذلك الصور النمطية السلبية ومُشجعًا على الحوار البناء.

Text

الصورة منشورة في منصة Gather.

تنفيذ نهج يُركز على تلبية احتياجات المجتمع
إنّ الصحافة المجتمعية ليست مجرد استجابة لتحديات الصحافة، بل إنها فرصة لإعادة صياغة مستقبلها، وذلك من خلال تعزيز بناء الثقة، والشمولية، والتعاون، وتتمتع هذه الصحافة بالقدرة على إحداث تغييرات ضرورية طال انتظارها، مما يُمهد الطريق نحو مشهد إعلامي أكثر عدالة واستدامة.
كما أنّ تبني الصحافة المجتمعية ليست مهمة سهلة بطبيعتها؛ فمقاومة التغيير، والموارد المحدودة، وصعوبة قياس التأثير، وضيق الوقت تُمثل تحديات كبيرة. ومع ذلك، إذا أردنا إنشاء صحافة أكثر تأثيرًا وملاءمة وتُلبي احتياجات الناس من المعلومات بشكل مباشر، فينبغي علينا الاستثمار في جهود التي تهدف بشكل مقصود إلى بناء روابط عميقة بين غرف الأخبار والمجتمعات. 
وأشار داميان رادكليف كاتب المقالة إلى أنه قد أخبرته مادلين باير، مُؤسسة موقع "إل تيمبانو": "يمكنك إجراء كل عمليات التحقق من المعلومات التي تريدها، ولكن إذا لم يثق أفراد المجتمع في مؤسستك، فلن يكون لذلك أي جدوى".
ولهذا السبب، أوصت مادلين بالسلوكيات المُتأصلة في مبادئ الصحافة المجتمعية. وقالت: "إنّ الوقت الذي يُستثمر في تطوير العلاقات والاستماع إلى الجمهور هو وقت مستغل بشكل جيد"، مضيفةً: "فبمجرد أن تستثمر منذ البداية في بناء علاقات قائمة على الثقة، والاستماع إلى الجمهور الذي تسعى إلى خدمته، فإن هذا يعود عليك بالفائدة بشكل كبير".


للمزيد من المعلومات حول الأفكار ودراسات الحالة في هذه المقالة، يُمكنك الاطلاع على التقريرين اللذين أعدّهما داميان: "إعادة تعريف الأخبار: بيان من أجل صحافة محورها المجتمع"، و"تطوير الصحافة المرتكزة على المجتمع". يُمكنك أيضًا قراءة هذه التقارير فصلاً تلو الآخر على صفحته على Medium.

الصورة الرئيسية حاصلة على رخصة الاستخدام على موقع Unsplash بواسطة ماثيو شوارتز.