مرّ عام على الإنفجار الكارثيّ الذي هزّ مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت، وتحديدًا في 4 آب/أغسطس 2020، موديًا بحياة أكثر من مئتَي شخص وإصابة الآلاف، ومسفرًا عن تدمير المباني السكنية والشركات القريبة من موقع الإنفجار الذي نجم عن تخزين مئات الأطنان من نيترات الأمونيوم. وزاد هذا الحدث المأساوي من معاناة الشعب اللبناني الذي يعيش في بلد ينخره الفساد الحكومي وسوء الإدارة المالية وسوء استخدام السلطة منذ سنوات.
وعلى الرغم من مرور عام على وقوع الإنفجار، إلا أنّ كثيرين لا يزالون يعيشون تحت وطأة تداعياته، ولا يزال بعض المتضررين من دون منازل، ولم يعثروا على الكثير من الإجابات لأسئلة يطرحونها، من بينها أسباب وقوع الإنفجار ومرتكبيه.
والجدير ذكره أنّ الأزمات المتتالية والمتداخلة كان لها تداعيات في المشهد الإعلامي وفي المجتمعات المدنية، والتي ترافقت مع دعوات متزايدة للمساءلة والتغيير.
في هذا الإطار، أجرت شبكة الصحفيين الدوليين مقابلات مع عدد من الصحفيين والناشطين في المجتمع المدني من أجل تسليط الضوء على كيفية تأثّر الصحفيين بالأزمات المتلاحقة، لا سيما بعد الإنفجار، وجرى الحديث عن مستقبل الإعلام اللبناني وما هو الأمل المتبقي في لبنان، بالوقت الذي يشهد المشهد الإعلامي اللبناني ثورته الخاصة ويواجه واقعًا متغيرًا على الأرض إضافةً إلى تطوّر احتياجات جمهوره.
نحو صحافة المساءلة
يكتنز لبنان مساحات إعلامية ومدنية تنبض بالنشاط، لكنّ ثقافة المساءلة ليست منتشرة وفعّالة كما يجب، كذلك فإنّ سياسة فقدان الذاكرة الجماعية التي وُضعت في نهاية الحرب الأهلية منحت الجناة عفوًا عن ارتكاباتهم ما جعل من أمراء الحرب، سياسيين لا يزال العديد منهم في السلطة اليوم.
وفي خضمّ التغيير في المشهد الإعلامي اللبناني، برز التحوّل نحو التقارير الاستقصائية بشكل ملحوظ. وبرأي أيمن مهنا وهو المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير، وهي منظمة غير حكومية تُعنى بالدفاع عن حرية التعبير ومقرها بيروت، أنّه لم يعد بإمكان المؤسسات الإخبارية أن تتجاهل الدعوات الرنانة للمساءلة. توازيًا، فقد اضطرّت المؤسسات الإعلاميّة التقليدية، التي تملك غالبيتها أحزاب سياسية قوية وقادتها أو منتسبون إليها، إلى تغيير أولوياتها في إعداد التقارير. وأشار مهنا إلى أنّ "وضع السياسيين في مقدمة التغطيات الإخبارية بدلاً من القضايا التي تهم المواطنين لم يعد مقبولاً".
إقرأوا أيضًا: كيف غطّت وسائل الإعلام المستقلّة في لبنان الإحتجاجات؟
من جانبهم، يذهب الصحفيون الذين يعملون مع قنوات البث التقليدية، مثل الجديد وأم تي في، إلى ما هو أبعد من التغطية العادية للأحداث ويتعمّقون في العيوب المنهجية للسياسية اللبنانية. وتحدّث مهنا عن الحرائق التي اندلعت في الغابات الواقعة في شمال لبنان مؤخرًا، موضحًا أنّ التحقيقات التي أجرتها قناة "أم تي في" قبل اندلاع الحرائق نبّهت من أنّ إدارة الإطفاء غير مجهزة بشكل كافٍ للتعامل مع مثل هذه الكارثة.
وعلى الرغم من أنّ هذا الإتجاه يعدّ واعدًا لوسائل الإعلام الرئيسية في لبنان، إلا أن مهنا لفت إلى أنه من غير الواضح ما إذا كان سيستمر، واعتبر أنّ الاختبار الحقيقي سيكون في الإنتخابات المزمع عقدها في العام 2022، إذ من المهم ألا تعود الوسائل الإعلامية إلى الطرق القديمة بمجرد تحديد موعد الانتخابات.
من جهتها، أشارت مديرة البرامج في مؤسسة "مهارات" غير الحكومية التي تدعم حرية التعبير ليال بهنام إلى أنّ الطريق لا يزال صعبًا أمام الصحفيين الاستقصائيين، وقالت: "على الرغم من تركيز الكثير من الصحفيين على المساءلة، إلا أنّ البيئة القانونية والمهنية لا تساعد كثيرًا في إعداد هذا النوع من التقارير، حيث لا يستطيع الصحفيون الوصول إلى المعلومات، وعلى الرغم من وجود بعض القوانين التي يمكن أن تساعدهم، غير أنها لا تُنفذ".
إذًا، الإتجاه نحو إعداد التقارير الاستقصائية دونه الكثير من العوائق، أبرزها زيادة الدعاوى القضائية التي تُقام ضد الصحفيين، وهي طريقة شائعة تنتهجها السلطات منذ الاحتجاجات التي انطلقت في لبنان منذ ما يقارب العامين، وتحديدًا في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
من جانبه، أشار المراسل في قناة "أم تي في" إلى أنّه يكاد لا يمرّ أسبوع من دون مواجهة الصحفيين دعاوى قضائية بسبب أعمالهم، موضحًا وجود محاولات لكبح الصحفيين أيضًا إجراء التحقيقات والأبحاث المطوّلة، كذلك الأمر بالنسبة لطلب المعلومات عن المصادر وغير ذلك.
وسائل الإعلام "البديلة" و"الرئيسية"
بعد الإحتجاجات المناهضة للفساد التي عمّت لبنان في تشرين الأول/أكتوبر، اكتسبت وسائل الإعلام الرقمية البديلة متابعة كبيرة، ومن بينها "درج ميديا" وهي منصة إعلامية مستقلة أسّسها صحفيون محترفون ومصدر عام وهي وسيلة إعلامية تنشر مقالات طويلة وتقارير معمّقة وتتخصص المنصتان في الصحافة الإستقصائية.
أمّا الصحفية عليا ابراهيم التي شاركت في تأسيس موقع "درج"، فلفتت إلى إجراء سلسلة تحقيقات إستقصائية واسعة النطاق، إحداها ترتبط بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وآخر حول المنح الدولية التي حظي بها لبنان في المرحلة التي أعقبت الإنفجار. ولفتت إلى أنّ مهمة درج تكمن في تسجيل ما يجري وتحدي العودة إلى عقلية العمل القديم، وذلك على الرغم من وعي المواطنين اللبنانيين بالفساد الحكومي المستشري.
إلى ذلك، خلصت أبحاث أجرتها مؤسسة "مهارات" إلى أنّ وسائل الإعلام البديلة تحظى بشعبية لا سيما بين فئة الشباب الذين يشعر كثير منهم بالإحباط من الروايات التي تُنشر في وسائل الإعلام الرئيسية والتي تميل إلى الخطوط الطائفية والحزبية. كذلك فإنّ الصحافة البديلة تسهم في تمثيل الجنسين وتنويع الأخبار بشكل أكبر من وسائل الإعلام الرئيسية.
وبرأي بهنام، فإنّ وسائل الإعلام البديلة ستدفع بالمؤسسات التقليدية لتغيير أجنداتها، وذلك لأنّها تجذب الشباب المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن الأمثلة على ذلك، التحقيق في الهبة التي قدّمتها سريلانكا للبنان بعد الإنفجار، والتي كانت عبارة عن 3685 طنًا من الشاي، ولفتت بهنام إلى أنّ المواطنين كانوا يسألون عن الشاي على "تويتر"، وعندما الكثير الحديث بهذا الموضوع على وسائل التواصل الإجتماعي، اندفعت المؤسسات الإعلامية الرئيسية إلى تغطية هذه القضية.
إقرأوا أيضًا: إنفجار بيروت: نصائح من قلب الميدان لحدث بحجم هيروشيما
ماذا عن الاستدامة؟
يشهد الإعلام في لبنان أزمة مالية تاريخية، تترافق مع الأزمة التي يعاني منها لبنان، والتي صنّفها البنك الدولي من بين أسوأ الأزمات التي شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر وذلك مع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل جنوني.
عن هذا الأمر، قال شاهين: "الصحفيون الذين كانت رواتبهم الشهرية تبلغ 3000 دولار أميركي، يعيشون الآن بـ200 دولار فقط". وقد أجبرت هذه الأزمة المؤسسات الإخبارية إلى القيام بتقليص العمل وتقليل عدد الموظفين، كذلك فقد اعتمدت غرف الأخبار وصحفيون، ممّن تأثروا بالانفجار على المساعدات والمنح الدولية من أجل التمكّن من مواصلة العمل".
من جانبه، سلّط رئيس تحرير صحيفة "دايلي ستار" نديم لادقي الضوء على التحدي الذي زاد حدّة الأزمة والمتمثّل بتقلص عائدات الإعلانات على مستوى العالم، لا سيما في أعقاب تفشي جائحة "كوفيد 19"، وقال: "للأسف، وصلت الأمور إلى مرحلة حيث ستغلق فيها بعض المؤسسات الرائدة".
وتبرز مشكلة أخرى وهي انقطاع التيار الكهربائي والنقص في المحروقات والتي تؤثّر على قدرة الصحفيين على إعداد تقارير والتحرك على الأرض. وعن هذا الأمر، قال شاهين: "لم يكن لدي كمية كافية من الوقود لكي أقود سيارتي"، ولهذا اعتمد المراسل على الصور ومقاطع الفيديو التي أرسلها له أصدقاؤه حول حرائق الغابات التي نشبت في شمال لبنان.
ويعدّ الوصول إلى التمويل أمرًا صعبًا بالنسبة للكثير من المؤسسات الصحفية البديلة، التي ترفض الكثير منها اللجوء إلى مصادر الدخل التقليدية المرتبطة بالأعمال التابعة لسياسيين. من جهتها، أوضحت لارا بيطار، المحررة المؤسسة لـ"مصدر عام" أنّ الإستدامة المالية تبقى مصدر قلق رئيسي، كما أنّ المؤسسات المستقلة تحتاج إلى الكثير من أنواع الدعم الأخرى.
وقد شهدت منصات إعلامية مثل "درج" بعض النجاح في تنويع وإضافة الخدمات الإنتاجيّة والاستشاريّة إلى مصادر إيراداتها. وبحسب إبراهيم، فإنّ التعاون مع المؤسسات الإقليمية والوطنية المستقلة بدأ يؤتي ثماره، إذ قالت: "ساهم التعاون في نشر محتوى رائع، كما أننا نتمكّن من الوصول بشكل أوسع عندما نعمل معًا والتأثير أكبر".
كذلك، يرى مهنا أنّه يوجد جانب إبجابي في التحديات التي تفرضها الأزمة الاقتصادية على وسائل الإعلام الرئيسية، موضحًا الإفتقار إلى التمويل السياسي والإعلانات في ظل اقتصاد منهار، وهو ما يجبر هذه المؤسسات على إعادة تقييم نماذج التمويل الحالية والتحول نحو "الصحافة المسؤولة والمساءلة" التي يطالب بها الجمهور اللبناني.
إقرأوا أيضًا: 9 صور وفيديوهات "فايك" عن إنفجار بيروت.. وأدوات للتحقق
وأوضح مهنا أنّ هذه أيضًا لحظة انتقالية رئيسية للمانحين الدوليين وللمنظمات التي تُعنى بالدعم الإعلامي مثل مؤسسة سمير قصير، مشيرًا إلى أنّ الخطوة التالية تكمن بالاستفادة من منح الدعم والهبات المتوفّرة بشكل مؤقت من أجل الإستثمار في الصحافة الاستقصائية والمساءلة. ولفت إلى أنّه "حتى عندما تنتهي هذه المنح، سنكون قد أنشأنا طاقمًا من الصحفيين المجهزين بالأدوات المناسبة."
الهجرة الصحفية
وذكّر مهنا أيضًا بالصحة النفسية للصحفيين والتي يجب إيلاؤها أهمية، مشيرًا إلى أنّ الوضع سيئ والدعم ليس سوى في بداية ما هو مطلوب فعلًا.
والمهم هو أنّ الصحفيين اللبنانيين لا يغطون تداعيات الفقر وتأثيره على المجتمع اللبناني الذي يغرق 70% في هذه الأزمة المالية، بل يواجه الصحفيون هذه الأزمة أيضًا، ما دفع أعدادًا كبيرة منهم إلى الهجرة إلى خارج لبنان، في وقت انتقل بعضهم للعمل مع مؤسسات دولية تدفع الرواتب بالعملة الأجنبية. وبرأي لادقي، فإنّ الصحافة الجيّدة هي الضحية، قائلًا: "بحال لم نستطع جذب الصحفيين وتحسين ظروف العمل، فإن جودة المحتوى ستتراجع، وبالتالي سينخفض عدد المشتركين."
من جانبها، قالت بهنام: "نحن نغرق في المهام العملية ولا نفكر في الصحة النفسية، لكننا نحتاج إلى وقت للتنفّس والقول إننا لسنا بخير ونحتاج إلى المساعدة."
ويشير شاهين، الذي يمتلك 45 عامًا من الخبرة الصحفية إلى أنّه يشعر أنه لا يوجد خيار آخر سوى الاستمرار. وقال: "ما زلت أذهب إلى العمل وكأنني أحصل على راتبي القديم"، مضيفًا: "لا يزال الموظفون في عملهم لأنهم لا يملكون خيارًا آخر ولا يوجد حل آخر سوى القيام بالعمل".
وبعد سرد كلّ ما تقدّم، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض اللبنانيين لا يزال لديهم أمل في المستقبل، وهو الأمر الذي تحدّثت عنه ابراهيم، موضحةً أنّ "اللبنانيين يعتزّون بقدرتهم على الصمود، لكنهم يجدون أنّ ما مرّ يكفي ويريدون حياة طبيعية".
الصورة الرئيسية حاصلة على رخصة الإستخدام على أنسبلاش بواسطة شربل كرم.