منذ ما يزيد عن 248 يومًا، يخوض الصحفيون الفلسطينيون داخل قطاع غزة غمار العمل في ظل حرب قاسية، راح ضحيتها 150 صحفيًا وصحفيّة، وجرى اعتقال 12 آخرين، وفق إحصائيات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي ونادي الأسير (حتى تاريخه).
وعطفًا على ذلك، تعد التغطية الصحفية في أوقات الحرب والنزاعات المميتة من أصعب التجارب التي قد يعيشها الصحفي، فيها تتساوى فرص النجاة مع فقدان الحياة أو الخروج بإصابة في أحسن الأحوال.
شبكة الصحفيين الدوليين حاورت بعض المراسلين الميدانيين والمصورين للتعرف على تجربتهم في تغطية أحداث الحرب، وحجم التحديات التي واجهتهم وسط فقدان المعدات واستهداف المقرات وحالات النزوح المتتالية الداخلية، وما السبب الذي دفع صحفيين آخرين للخروج من غزة بعد أسابيع من التغطية.
"الأخطر على الصحفيين في العالم"، بهذه الكلمات وصف مراسل التلفزيون العربي باسل خلف بيئة العمل في غزة قائلاً: "استطعنا خلال الأشهر الماضية تغطية ما يمكن الوصول إليه من جغرافيا غزة. في الحقيقة، لا أستطيع القول إننا وصلنا لكل شيء، على الرغم من نقل مئات القصص من خلال التقارير أو مئات الساعات على الهواء مباشرة".
ويضيف خلف: "عشرات المباني كانت تُدمّر في الساعة الواحدة، فتصل مئات الإصابات، كنت ألاحق أقاربهم لمعرفة ما جرى، وكنت أحرص على التعامل معهم بوصفهم بشرًا لديهم قصة إنسانية وليسوا أرقامًا، هذه مهمة شاقة لصحفي يتابع طوال النهار الحدث، لكن في نهاية اليوم كنت أشعر بأنني فعلت ما يمكنني فعله كصحفي، وقبل ذلك كإنسان فلسطيني يعمل ويعيش في المنطقة نفسها".
وعاش الصحفيون في مواجهة دائمة مع العديد من المعيقات، قبل الحرب وخلالها، مثل تقييد الحركة ومنع دخول الصحفيين من الخارج، ونقص المعدات الناجم عن منع توريد البضائع عبر المعابر والاضطرار لاستخدام معدات شبه تالفة، وكذلك غياب أدنى درجات السلامة والحماية للصحفيين.
وعن التحديات، يتحدث خلف: "اضطررنا للنزوح من اليوم الثاني بعد تهديد البرج الذي يضم مكتبنا وسط مدينة غزة. تخيّل أنك تعمل من مستشفى، بحثًا عن الإنترنت والكهرباء، كانت ظروف صعبة جدًا، وأنت تتنقل بين الجثث والمصابين والنازحين الذين كانوا يفترشون الأرض في كل نواحي المشفى ومرافقه".
انقطاع الاتصالات بأنواعها كان أبرز عقبة واجهت خلف وفريق العمل في الفترة الأولى، مما وضع استمرار التغطية على المحك، ولكن فهم أهمية التغطية والحاجة لمواصلتها دفعهم للبحث سريعًا عن بدائل، حتى تمكن مراسل "العربي" من تجاوز الأزمة بواسطة الشرائح الإلكترونية (eSIM)، مضطرًا في ذات الوقت للعمل في زاوية ضيقة من المشفى توفرت فيها إشارة الإرسال.
والصعوبات أيضًا طالت النواحي الحياتية، كمشكلة توفير الطعام والشراب سواء على المستوى الشخصي أو للعائلة التي اضطرت للنزوح أيضًا، فضلًا عن الحاجة لتفهم الظروف الطارئة لزملاء الفريق الذين فقدوا عددًا من أفراد عائلاتهم، أو أُصيبَ بعضهم، فضلًا عن تدمير منازل الغالبية منهم.
ولم يفت خلف الإشارة إلى ست نقاط مهنية من واقع تجربته، وهي:
1. ضرورة قراءة موقع التغطية الذي ستذهب إليه مسبقًا لمعرفة ما هي الصورة التي يمكن أن تحصل عليها، وأهميتها مقابل المخاطرة العالية.
2. الاعتماد على الهاتف في تغطية مجريات الأحداث كان مهمًا للغاية، يمكن الحصول على بعض التدريبات من مصادر التعلم المفتوحة، حتى تصل لصورة ذات جودة مقبولة مقابل محتوى قوي، وأحيانًا حصري.
3. التضليل غير مقبول في الصحافة وكذلك التهويل.
4. دور الصحفي هو الإخبار في النهاية، ليس الاستعطاف ولا التمني.
5. الاهتمام بالصحة النفسية مهم للغاية، فـ"صحفي متوتر نفسيًا لا يمكن أن ينتج مادة رصينة من دون أن يظهر ذلك للمشاهد أو القارئ".
6. العمل مع فريق وبروح الفريق مهم جدًا لتجاوز العقبات، التي يغلب عليها طابع إنساني، حيث يتقاسم الجميع نفس الظروف، والدوافع لاستمرار نقل الرسالة.
دور المرأة في الإعلام الحربي
وفي ذات السياق، تتحدث مراسلة قناة الكوفية ناهد أبو هربيد عن تجربتها: "حجم الدمار وقسوة الظروف والمشاهد كانت كفيلة بأن تكون هذه التجربة قاسية علينا بكل المقاييس، فديمومة ودموية المشاهد أصابتنا كما الكثير من الصحفيين بضغط هائل".
وعن أصعب المواقف التي واجهتها أبو هربيد تتحدث لـ"شبكة الصحفيين الدوليين": "كنت أتجهز للخروج في إشارة صحفية جديدة حينما وصلني خبر فقدان وأسر أشقائي في شمال غزة، وهدم منزلنا وتشريدنا لأكثر من أربع مرات في مناطق مختلفة.. ولكنني رغم ذلك وازنت بين واجبي الصحفي والمسؤولية الإنسانية".
وتؤكد أنها وبقية الصحفيين يعملون في بيئة مليئة بالتحديات والمخاطر التي لا يمكن حصرها وقد تكون أكثر قسوة على الصحفيات، ولكن رغم ذلك "قدم الإعلام الفلسطيني تغطية شاملة على الأوضاع الإنسانية والتطورات السياسية والميدانية على صعيد العمل الصحفي أو بما يتعلق بالنشطاء ووسائل التواصل".
وترى أبو هربيد أنّ تفاصيل تجربتها بمثابة فرصة لتأكيد دور المرأة في الإعلام الحربي وإظهار القوة والشجاعة التي تمتلكها الصحفيات في مواجهة الصعاب، ولتسليط الضوء على الأهمية الإنسانية والإعلامية لتوثيق معاناة الناس في أوقات الحرب.
التجربة الأولى وخطر مضاعف
الصحفي محمد الهمص خاض أول تجربة له في تغطية الحروب لصالح قنوات تلفزيونية، وهي تجربة لم تكن كأي تحدٍّ مهني سابق له، فكان على دراية بالمخاطر، لكن ما واجهه فعليًا كان يفوق توقعاته بكثير وما تدرب عليه مسبقًا، وفق وصفه.
ويقول الهمص لـ"شبكة الصحفيين الدوليين": "منذ اللحظة الأولى، وجدت نفسي وسط مشاهد الدمار والانفجارات، محاطًا بصوت الصواريخ والغارات الجوية. كان عليّ أن أتأقلم بسرعة مع الواقع الجديد، حيث السلامة الشخصية أصبحت في المرتبة الثانية من التحديات بعد ضرورة نقل الحقيقة".
لم يكن التحدي مقتصرًا على الظروف الأمنية خاصة عند التنقل بين مناطق القصف والمستشفيات والملاجئ، بل شمل أيضًا الصعوبات التقنية ونقص أدوات السلامة المهنية (الخوذة والدرع) بعدما اضطر للنزوح من شمال غزة إلى جنوبها بدونها، لكن إصراره دفعه إلى إيجاد حلول بديلة لإرسال التقارير وبث الأخبار بشكل مستمر.
أما المختص بالتصوير الجوي (الدرون) شادي الطباطيبي فيرى أن تجربته كانت تحمل الكثير من المخاطر المضاعفة، بسبب حساسية المجال الذي يعمل به، في ظل هجمات إسرائيلية جوية لا تتوقف على أهداف مختلفة داخل قطاع غزة.
ويقول الطباطيبي لـ"شبكة الصحفيين الدوليين": "عملي في مجال التصوير الجوي خلال الحرب المستمرة كان محفوفًا بالصعاب، عملنا في سبيل توثيق الأحداث ونقل الحقيقة إلى العالم، ولكنه كان يأتي بتحديات هائلة، وخصوصًا الاستهداف المباشر لنا كصحفيين مثلما حدث مع الصديق الراحل مصطفى ثريا".
والطباطيبي واحد من الصحفيين الذين غادروا غزة، وعن دوافع ذلك يوضح: "يرتبط الأمر بالمضايقات والتهديدات الإسرائيلية، وسعي الصحفي وراء بيئة أكثر أمانًا لهم ولعائلاتهم وأطفالهم، فضلًا عن الأسباب المتعلقة بالجانب الصحي والتشافي البدني أو النفسي للصحفيين الجرحى".
الصورة الرئيسة للصحفيين مقدّمة من الكاتب.