مراحل التفكير التصميمي والإبداعي.. لحلّ مشكلات الصحافة

نوشته Sarah Abdallah
Nov 27, 2020 در موضوعات متخصصة
صورة من الجلسة

في ظلّ عدم الإستقرار الذي تواجهه معظم المؤسسات الإعلامية حول العالم، حيث أقفلت أعداد كبيرة منها وأخرى سرّحت موظفين وصحفيين، توازيًا مع تراجع سوق الإعلانات وبالتالي الإيرادات، ومع زيادة حدّة الأزمة مع تفشي جائحة "كوفيد 19" وزيادة الإعتماد على الوسائط الرقمية والملتيميديا، أصبح البحث عن الفجوات وعن نماذج أعمال جديدة حاجة ملحّة.

ومن هنا يتعيّن على الصحفيين فهم التفكير التصميمي ومراحله من إشراك الجمهور وصولاً إلى تنفيذ الفكرة أو التقرير أو المشروع الإعلامي الريادي، خصوصًا وأنّه يشكّل عملية لحل المشكلات بشكل إبداعي، وأنّ "له جوهر محوره الإنسان ويساعد المؤسسات على التركيز على الأشخاص الذين تستهدفهم، وهذا ما يؤدي إلى منتجات ومحتوى وخدمات أفضل للجمهور المستهدف"، بحسب المستشارة الإعلاميّة في المركز الدولي للصحفيين والمدربة في التصميم الذي يتمحور حول الإنسان (Human Centered design) في أكاديمية دويتشه فيله مادونا خفاجة، التي أوضحت لأكثر من 200 صحفي شاركوا في جلسة ضمن ملتقى شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج) الثالث عشر والرقمي الأول، الآلية التي تسمح لهم بأن يكونوا مبدعين في إيجاد الحلول لأكثر المشاكل تعقيدًا، وتطوير خطط العمل الصحفي وتحسين التصميم والمحتوى الرقمي.  وأدار الجلسة الصحفي الاستقصائي محمد زيدان، الذي يعمل بشكل مستقل مع العديد من المؤسسات الصحفية الدولية والعربية، ويعمل في مجال التدريب منذ عام 2015.

صورة

وخلال عرضها لمفهوم التصميم المتمحور حول الإنسان، أشارت خفاجة إلى أنّ "طريقة التفكير الإعلامي تحوّلت من جعل الناس يريديون المنتج/المحتوى إلى إنتاج الأشياء التي يريدها الناس، ما يعني أنّ المؤسسة الصحفية أو الصحفي الذي يعمل على إعداد تقرير يضمّن الجمهور في المحتوى منذ بداية عمله"، مضيفةً أنّ "الـHCD هو نهج لحلّ مشكلة ما أو تحدّ ويستخدم بشكل شائع في أطر التصميم والإدارة لإيجاد حلول للتحديات". ولفتت خفاجة إلى أنّ "الـDesign Thinking لا يقتصر على العمل الصحفي فحسب، إذ دخل عالم الصحافة مؤخرًا بعدما كان موجودًا في قطاع المصارف والهندسة وريادة الأعمال، وتكمن أهميته بالبناء على ما وجد في السابق وتقديم حلول ومواد محددة تسدّ حاجة معينة أو فجوة معينة لدى المستخدمين".

وقبل البدء بأي تقرير أو إطلاق مشروع إعلامي، أوصت خفاجة الصحفيين بمعرفة "المناطق/الجغرافيا للمستخدمين/الجمهور، البحث عن نسبهم كنساء أكثر أم رجال، إدراك ما هي اهتماماتهم/هنّ، طريقة تعاملهم الإلكتروني، هل ينقرون على المواضيع السلبية أو الإيجابية، ما مدى مهاراتهم الرقمية، ما هي قدرة وصولهم إلى الإنترنت"، موضحةً أنّ "هذه العوامل يجب أن يدركها الصحفي في أي تقرير ينتجه في العالم العربي، مثلاً عند إنتاج فيديو على الصحفي أن يسأل هل الإنترنت سريع في هذا البلد لأقدّم فيديو مدّته 20 دقيقة أم أعدّه بشكل قصير أكثر، وأن يفكّر الصحفي بالمنصة الرقمية التي سينشر تقريره عليها وخصائصها".

رحلة التصميم المتمحور حول الإنسان

 تبدأ رحلة التصميم الإبداعي المتمحور حول الإنسان، انطلاقًا من مرحلة الفهم، وصولاً إلى مرحلة الإستكشاف وأخيرًا تأتي مرحلة التطبيق. فخلال المرحلة الأولى يبدأ تأسيس التعاطف بين الصحفي والمستخدم/الجمهور والتعرّف على المعضلات التي يواجهها هذا الجمهور والتفاعل معه،  وبعدها تتألّف مرحلة الإستكشاف من التوصّل إلى تشكيل الفكرة التي سيوسّعها الصحفي وتشكيل نموذج أوّلي للعمل، أمّا في المرحلة الأخيرة فيحين وقت التطبيق من خلال الإختبار والتنفيذ، وبالتالي التوصّل إلى حلول مبتكرة، بحسب ما أوضحت خفاجة، مضيفةً: "قبل الـHCD، كان الصحفيون يقومون بجمع البيانات والمعلومات التي يريدونها، أمّا الآن فأصبح يوجد ثلاث مراحل هي مرحلة الفهم وبعدها مرحلة الإستكشاف التي نفهم فيها الحاجات والتواصل والتفاعل والإشكالية وبعدها مرحلة التطبيق".

صورةأولاً، التعاطف: أي فهم حاجات وعواطف المستخدم، ما يعني أنّ الصحفي يراقب، يتفاعل، يشاهد ويستمع إلى جمهوره. وبحسب خفاجة، ففي هذه المرحلة، يتعيّن على الصحفي أن يلاحظ كيف يتفاعل المستخدمون مع بيئتهم، ويلتقط الإقتباسات والسلوكيات والملاحظات التي تعكس تجربة المستخدمين.

 ثانيًا، التعرّف: في هذه المرحلة يفهم الصحفي ما يريده المستخدم، على الصحفي أن يقوم بإشراك المستخدمين بشكل مباشر ويتفاعل معهم عبر إجراء مقابلات من أجل فهم أكبر لمعتقدات المستخدمين وقيمهم.

ثالثًا: تشكل الفكرة: أي تحديد المشكلة والحاجة الأساسية للمتابعين وأن يفهم الصحفي ما هي الإشكالية من أجل البحث عن حلول لها. وقالت خفاجة إنّه بعد التواصل مع الجمهور "على الصحفي أن يغمر نفسه في تجربة المستخدمين، عبر البحث عن طرق للإنغماس في بيئات محدّدة من أجل تصميم المشروع الإعلامي الريادي أو التقرير الذي يريد الصحفي إعداده"، وأوصت خفاجة الصحفيين بأن يقوموا بإدراج المعلومات والبيانات والتعليقات التي حصلوا عليها من الجمهور أو المستخدمين في مشروعهم الإعلامي.

 وأشارت خفاجة إلى أنّ المؤسسات الصحفية التي تتبع مسار الصحافة البنّاءة Constructive journalism، تعتمد بشكل كبير على المنصات الرقمية لتوزيع المحتوى، وفيها يقوم الصحفي بالتواصل مع الجمهور ويتوجّه له ولكن الموضوع يكون واسعًا، فيختار الجمهور أكثر المواضيع التي تهمهم. وقد يعطي المتابعون معلومات إضافية تساعد الصحفي على تطوير المحتوى أو المشروع الإعلامي، وهذا لا يعني أنّ الجمهور يأخذ قرارًا بدلاً من المحرر، بل يكمن دوره بمساعدة الصحفي على البحث عن حلول وخواتيم لقصص جديدة، مع الحفاظ على الخط التحريري المستقلّ.

وفي مرحلة الفهم التي تتضمّن التعاطف والتعرّف قبل الوصول إلى تشكّل الفكرة، نصحت خفاجة الصحفيين بتكرار سؤال "لماذا"، حتى التمكّن من تحديد الموضوع بشكل أوضح، وقالت: "القاعدة هي أن تسأل لماذا على الأقل ثلاث مرات"، فيما بعد يمكن للصحفي باستخدام مهاراته أن يميّز ما هي البيانات المفيدة وغير المهمّة التي وصلته من المستخدمين، وبالتالي يدرك ما هي البيانات التي يريد أن يستخدمها.

وأعطت خفاجة مثلاً عن تجربة صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية على العمل على الـHCD والتي أطلقت نشرة بريدية أسبوعية، فهمت من خلالها القراء وما هو الشكل الذي يفضّلون أن تصلهم التقارير به، وعيّنوا أحد الكتاب الرئيسيين والمصممين للعمل على هذه النشرة، وأصبحوا يعرفون ما هي المواضيع والتطلعات التي يصبو إليها الجمهور، وساعدهم التفكير التصميمي على زيادة الإشتراكات في النشرة.

ورأت خفاجة أنّ إشراك الجمهور، لا سيما في المجتمعات الضيقة هو أمر مهم من أجل تصميم كيفية تنفيذ العمل، وهذه المرحلة تشمل مقابلة الجمهور بشكل غير رسمي من أجل الوصول لأكبر عدد من الأشخاص، مثلاً: إذا كان الصحفي يعدّ تقريرًا عن التدهور الإقتصادي في بيروت، وهذا موضوع واسع، حينها يمكنه إجراء حوارات في الشارع مع 10 أشخاص في العاصمة اللبنانية، ومن خلال الأسئلة وكيفية ردّ المواطنين والجملة المكررة أو الحجة التي يتطرّق لها أكثر من شخص، يجد الصحفي أكثر نقطة مثيرة للإهتمام والبحث والتدقيق. وإضافةً إلى المقابلات المباشرة مع الجمهور، قالت خفاجة إنّ بعض المؤسسات تلجأ إلى وضع أسئلة عبر حساباتها على السوشيال ميديا، وبحال كُتب تعليق لافت يمكن المتابعة مع الشخص الذي كتبه حول حالة يعرفها مثلاً.

وأضافت خفاجة أنّ "التفكير التصميمي المعتمد على السرد القصصي وتعتمده عدد من الصحف الأميركية، تبدأ العملية بطرح أسئلة على الجمهور حول النقاط الملحة التي يحتاجون أن يتطرّق لها الصحفي، وبعد تعدد الأسئلة والإجابات يبدأ الصحفي بتفصيل الإجابات، وإيجاد أكثر المعضلات التي تحدّث عنها الجمهور، ثمّ يطلب من الجمهور تحديد أكثر إشكالية يعانون منها أي التصويت مثلاً على 4 معضلات، وهنا يستطيع الصحفي أن يضع خطة لتنفيذ تقريره ومعرفة إذا ما كان يحتاج إلى صحفي متخصص بالبيانات، إلى مصمم أو معدّ فيديو أو صوت، وتأتي مرحلة النشر وبعدها الإختبار، وهنا عندما يطلع الجمهور على القصة الصحفية المؤلفة أصلاً من معلومات قدّموها، وقد يقدّمون معلومات إضافية إلى السابقة، ويدفعون الصحفي إلى إعداد تقرير جديد.

وفي هذه المرحلة يقوم الصحفي بمعالجة النتائج التي حصل عليها وتوليفها من أجل تكوين وجهة نظر الجمهور التي سيتناولها، وكي يفهم أكثر على الصحفي التركيز على ثلاثة أمور هي:

أولاً، المستخدم: هنا شدّدت خفاجة على أهمية أن يدرك الصحفيون من هم الأشخاص الذين يصمّمون المشروع الصحفي أو المنتج الإعلامي/المحتوى لأجلهم.

ثانيًا، الإحتياجات: هنا على الصحفي تجميع واختيار مجموعة محدّدة من الإحتياجات التي يعتقد أنّ تطويرها أو تلبيتها في المشروع الإعلامي مهم.

ثالثًا، البيانات: بعد تصفية الإحتياجات وتحديد أبرزها، يكمن دور الصحفي في هذه المرحلة بدراسة المعطيات التي حصل عليها وتحديد الأولويات.

بعد الإستماع إلى المستخدمين وأخذ الأمور المهمة التي تفيد الصحفي في القصة التي سيعمل عليها، يبدأ بالبحث عن الأفكار الخلاقة التي يريد أن يضيفها، فالصحفي يترجم المشاكل إلى حلول. وتقول خفاجة متوجهةً للصحفيين: "ركّزوا على توليد الأفكار، فأنتم تترجمون المشاكل إلى حلول، استكشفوا مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الأفكار لتجاوز الحلول الواضحة لمشكلة ما، وذلك من خلال الإبداع أي الجمع بين اللاوعي، الرغبات والأفكار العقلانية والخيال، إضافةً إلى عمل المجموعة والإستفادة من المجموعة للتوصل إلى أفكار جديدة". 

ويفضّل في الـHDC العمل ضمن مجموعة وتبادل الأفكار، وأن يكون مع الصحفي مبرمج أو مصمّم ليُصبح المنتج/المحتوى معمّقًا أكثر ويمكن أن يصل إلى المستخدم بطريقة تشبهه، وفقًا لخفاجة التي أضافت: "أنت تفكّر في الإنتقال من تحديد المشكلات إلى استكشاف الحلول للمستخدمين، وتشكيل الفكرة هو الوضع الذي تولد فيه بدائل تصميم جذرية من حيث المفاهيم والنتائج، أي طريقة التوسّع بدلاً من التركيز، الهدف من التفكير هو استكشاف مساحة حلّ واسعة بكمية كبيرة وتنوّع واسع من الخيارات. من هذا المستودع الواسع للأفكار، يمكن أن يبني الصحفي نماذج أوليّة لاختبارها مع المستخدمين".

رابعًا: النموذج الأولي: غالبًا ما يُنظر إلى النماذج الأولية على أنها طريقة لاختبار الخصائص ولكنها تخدم العديد من الأغراض الأخرى، وهنا لدينا:

اكتساب التعاطف: تعمل النماذج الأولية على تعميق فهم الصحفيين للمستخدمين ولمساحة التصميم.

الإستكشاف: تطوير مفاهيم متعددة لاختبارها بشكل متوازٍ.

الإختبار: إنشاء نماذج أولية لاختبار الحلول وتحسينها.

وحثّت خفاجة الصحفيين على إلهام الآخرين من خلال عرض رؤيتهم، مشيرةً إلى أنّ الكثير من المؤسسات الإعلامية والجامعات الكبرى مثل جامعة ستانفورد وزمالة نايت، تكثّف عملها بشأن التفكير  التصميمي والإبداعي والمتمحور حول الإنسان، وأضافت أنّ "جائحة كوفيد 19 أدّت إلى تراجع سوق الإعلانات المؤسسات الصحفية، ما دفعها إلى خلق نماذج تفكير وتصميمات جديدة ومنها الـDesign thinking التي تساعد حتى المؤسسات التقليدية على التحوّل والتأقلم مع الأوضاع الجديدة التي يمرّ بها العالم". ورأت أنّ هناك حاجة ملحّة لأن يواكب الصحفيون التكنولوجيا من أجل إستدامة العمل، وبما أنّ المؤسسات بحاجة لنماذج أعمال جديدة،  تأتي الـHDC كالطريقة المثلى، مثلاً: انخفضت إيرادات الإعلانات فما هي البدائل والحلول مثل الإشتراكات والعضوية، وهنا على المؤسسة الصحفية أن تسأل هل ما تقدّمه يريده الناس، هل ما يُقدّم لا يكلّف مبالغ عالية ولا يحتاج تمويلاً إضافية؟ وهل فريق العمل الموجود يستطيع القيام بهذا العمل المطلوب. علمًا أنّ هذه الأسئلة أساسية لإيجاد توازن في أي عمل بمؤسسة صحفية.

وأوضحت خفاجة أنّ "التفكير التصميمي يحفّز الصحفيين على التفكير بالمواقف والنظر إليها بشكل مختلف والتوصّل إلى حلول جديدة تتجاوز البدائل الحالية وتُحسّنها"، مضيفةً أنّ "التفكير التكاملي الموجود أصلاً في شركات ريادة الأعمال، هو المفتاح بالتصميم الإبداعي، والذي من خلاله يتمّ الوصول إلى استكشاف جميع جوانب المشكلة".

وشدّدت خفاجة على "أهميّة التفكير خارج الصندوق وتحديد إذا ما كان الصحفي يريد أن يعالج تقريره بشكل متحيّز أو أنّه يضع أحكامًا مسبقًا، أم أنّه يترك حرية الخيار للجمهور"، مشيرةً إلى أنّ "طريق النجاح لا يتبع خطًا مستقيمًا، فكلّما تمكّن الصحفي من التكرار خلال الدورة المؤلّفة من "الفهم – الإنتاج – التعلّم"، كلما زادت فرصة حصوله على نتائج جيدة".

خامسًا: الإختبار

هنا على الصحفي أن يستمع بعناية إلى ملاحظات الجمهور وإعداد تصميم النموذج الأولي وفقًا لما سمعه. وقالت خفاجة: "دع الناس والجمهور يتحدثون عن تجاربهم مع النموذج الأولي وما يشعرون تجاهه من دون أن تتدخّل أنت وتصدر أحكامًا".

وأضافت: "استعانت الكثير من المؤسسات الصحفية بنماذج أعمال ودمجت عمل الصحفيين والمصممين ومع ذلك فشلت في التجربة، فالتفكير التصميمي ليس قالبًا واحدًا يتمّ تطبيقه في كلّ الدول وبكلّ المشاريع الإعلامية الريادية، فهو يعتمد على الجمهور وغيره من العوامل، وبالتالي يمكن انتاج الحلول حسب العناصر المحددة فيه".

سادسًا: التنفيذ

هنا تأتي مرحلة تعديل تفاصيل المهام، وضع خطط للمهام، تحديد الموارد، إسناد الموارد إلى من سيقوم بها، والإنطلاق بالتنفيذ.

وأخيرًا، أوصت خفاجة الصحفيين بوقف النقاش واستئناف العمل، وقالت: "اجعل الأفكار ملموسة، فالعمل على صناعة النماذج الأولية هو التفكير باستخدام مع اليدين، أي التجربة، إنّه التفكير التصميمي والإبداعي والفشل هو جزء ضروري من العملية من أجل النجاح!".

لمزيد من المعلومات حول التفكير الإبداعي والتصميم المتمحور حول الإنسان، يمكن الإطلاع على هذا المورد من جامعة ستانفورد.

الصور في المقال من الجلسة ضمن ملتقى شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج)