دور صحفي البيانات في تغطية جائحة "كوفيد 19"

نوشته عمرو العراقي
Oct 20, 2020 در صحافة البيانات
صورة لبيانات

رغم بشاعة جائحة "كوفيد 19" إنسانيًّا، فإنها منحت فرصة كبيرة لصحفيي البيانات في المنطقة العربية لإبراز أهمية ما يقومون به داخل غرف التحرير، لسنوات طويلة منذ نشأة مفهوم صحافة البيانات وصولًا إلى الشكل الذي نتداوله الآن، ولم يسبق من قبل أن يصبح الجميع بمختلف الفئات والمستويات مهتمين بنفس القدر بمتابعة البيانات يوميًّا عبر وسائل الإعلام، حتى في ظل الإعلان عن تسريبات كبرى عالمية متعلقة بالفساد المالي في العديد من الدول، وخروج الكثير من البيانات السرية إلى دائرة الضوء، لم ينشغل بها الجمهور بنفس القدر الذي يتابعون به تحديثات الإحصائيات المرتبطة بالجائحة. لقد أصبح فيروس كورونا أكبر وأهم قصة إخبارية يومية في عصرنا الراهن.

الكل يقرأ الأخبار ويسمعها ويراقبها كل يوم، ويحلل مدى سوء الأمور أو ربما تحسنها قليلًا. وفي استطلاع أجراه معهد إدلمان في مستهل شهر آذار/مارس الماضي، كشف أن أكثر من تسعين في المئة من الإيطاليين واليابانيين والكوريين يطَّلعون مرة واحدة في اليوم على الأقل على التطورات المرتبطة بالفيروس، وأكثر من نصفهم يقومون بذلك أكثر من مرة يوميًّا. ويمكن الجزم بأن القدر ذاته من الاهتمام والمتابعة موجودان لدى جمهور الإعلام العربي.

إنها لحظة مهمة لوسائل الإعلام لتثبت أنها في خدمة الجمهور، أولًا من خلال تزويده بمعلومات جديرة بالثقة عبر انتقائها والتحقق منها. فكما هو الحال مع أي أزمة عالمية، هناك الكثير من المعلومات حولها، وليست كلها جيدة. يمكن أن يؤدي تضليل المعلومات على الإنترنت إلى تضليل الجمهور. وهنا يبرز دور الصحفيين في إعلام العامة لإبلاغهم بأحدث المستجدات الدقيقة والمؤكدة في عصر رقمي تتدفق فيه المعرفة بوتيرة لم يشهدها العالم من قبل. وثانيًا تبسيط المصطلحات العلمية المعقدة والتنقيب والتحليل وربط الخيوط للكشف عن قصص صحفية ذات صدى. بالرغم من كثافة المعلومات المتداولة حول الجائحة فإنه لا زال هناك فجوة بين الكم المتداول والجمهور نظرًا إلى صعوبة المصطلحات العلمية التي تحتاج إلى تفسير وتبسيط.

وفي ظل هذه التحديات المتمثلة في تحري الدقة وصعوبة المصطلحات العملية، وكذلك في ظل الفرص الجيدة المتمثلة في اهتمام الجمهور بالأمر وحرية تدفق المعلومات، يمكن لصحفي البيانات أن يمارس دوره وفقًا لثلاثة مستويات متتالية في الترتيب وتقاطعه في الأهداف.

دور الجائحةالإخبار والتقصي

إن الوظيفة الأساسية للإعلام منذ فجر التاريخ هي إخبار الناس بما يحدث ويدور من حولهم، فأخبار الصباح كانت تعكس ما دار في المساء، زادت أهمية الخبر مع ظهور القنوات الفضائية والمنصات الإخبارية على مدار الساعة، وزادت أهمية التحقق منها في ظل التدفق الرقمي الهائل للمعلومات في عصر بات أبرز تحدياته "الأخبار الكاذبة".

كما اجتاح الوباء العالم بأسره اجتاح أيضًا غرف الأخبار وأرغمها على تغيير قائمة اهتماماتها لتكون أول من يبلغ عن التحديثات اليومية للبيانات، فأصبحت الأخبار والتقارير تنهمر يوميًّا عبر كافة المنصات المقروءة و المتلفزة. لتستعيد وسائل الإعلام هدفها الأساسي في إخبار المجتمع الحقائق والعمل على تصحيح المعلومات المغلوطة والمضللة.

لقد خصصت منصات إلكترونية دولية كبرى -تعتمد في نموذج ربحيتها على المحتوى المدفوع-  محتواها الخاص بالجائحة مجانًا، لم يقتصر ذلك على الأخبار العاجلة فقط ولكن شمل أيضًا التقارير المعمقة، خصصت الفايننشال تايمز صفحة خاصة بالجائحة تُحدَّث بين الوقت والآخر وكذلك الواشنطن بوست.

عندما يتعلق الأمر بالبيانات، ينبغي علينا التنقيب أكثر للكشف عن سياقها قبل نشرها، ليس دورنا نقل ما تنشره المؤسسات والمنظمات عبر مواقعها الإلكترونية وحسب، علينا التأكد من سلامة ما ينشر حتى لو كان الناشر مؤسسة رسمية، ففهم منهجية جمع البيانات وهوية الجهة التي جمعتها يشكِّلان عنصرين مهمين في تحديد مدى دقة البيانات وجودتها.

فعندما تعلن وزارة الصحة عن عدد الحالات التي تعافت من الفيروس، فينبغي على الصحفي أن يبحث أكثر ليعرف كيف تم تحديد هذا العدد وما هي الإجراءات التي تم اتباعها للتأكد من أن المصاب تعافى من المرض. كذلك عندما تعلن وزارة الصحة عن أن أغلب حالات الوفيات كانت لأشخاص يعانون من أمراض مزمنة، فينبغي التنقيب أكثر للتحقق من طبيعة الأمراض المزمنة وما المقصود بها وفقًا لتعريف الوزارة وهل يتطابق هذا التعريف مع تعريف وزارة الصحة العالمية.

كذلك ينبغي على صحفي البيانات توخي الحذر عند الكتابة عن الدراسات المستقبلية التي يجريها الباحثون لتوقع أعداد المصابين في بلد معين، يجب أن يحرص الصحفي على عدم ذكر التكهنات على أنها حقائق مؤكدة؛ فهذا ضرب من الإثارة. توقف قبل نشرها لتحديد، من أجراها؟ ما هي مدى دقة المؤسسة البحثية؟ من يمولها؟ هل لها سجل خبرة سابق؟ ما هي الافتراضات التي تم بناءً عليها الوصول إلى هذه النتائج؟ ما مدى دقتها؟ ما المنهجية التي اتبعها الباحثون؟ حاول دائمًا تحليل العوامل التي نجمت عنها نتائج هذا النوع من الدراسات ولا تقع في فخ الأرقام الصادمة.

وعلى الرغم من أن التغطية الدقيقة للأخبار تلعب دورًا مهمًّا في توعية الجمهور، فبوسع الصحفي أن يمارس دوره كمراقب للسلطة من خلال رصد ردود الأفعال على الأزمة، ويستمر في طرح التساؤلات، للكشف عن الحقائق. فلطالما كانت هناك أحاديث عن تقصير بعض الأنظمة الحاكمة في عدد من البلدان التي انتشر فيها الفيروس بمعدلات مرتفعة بسبب عدم اتخاذ الإجراءات الاستباقية اللازمة للاستعداد من تجهيز المستشفيات والمواد الطبية اللازمة وتدريب الطواقم الطبية وتوعيتهم.

على صحفي البيانات أن يبحث عن إجابات على أسئلة على شاكلة: هل هناك ما يكفي من معدات الاختبار والملابس الوقائية والأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي وأسِرَّة المستشفيات؟ ماذا سيحدث إن لم تكن متوافرة؟ هل تم تحذير المسؤولين الحكوميين مما يمكن أن يحدث؟ هل جهزوا بلادهم؟ لماذا ترتفع معدلات الوفاة في أحد مستشفيات العزل دون غيره؟ ولِمَ تصل الحالات متأخرة إلى مستشفيات العزل وفي حالة حرجة؟

لقد أسفرت محاولات فهم الأسباب الجوهرية وراء نقص التجهيزات الطبية عن نتائج جيدة في بعض الصحف العالمية. حيث كشفت مراسلتا رويترز، Allison Martell وMoira Warburton، عن انتهاء صلاحية ملايين الأقنعة المُخزنة في كندا. وفي "يو إس إيه توداي"، أشار Jayme Fraser  وMatt Wynn إلى أنه "لا يوجد في أي ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية ما يتسع لعلاج مرضى فيروس كورونا المستجد حال أصبح عدد الحالات الخطرة مماثلًا للدول الأخرى". وقد اعتمدوا في تحليلهم على بيانات الرابطة الأمريكية للمستشفيات وتعداد الولايات المتحدة ومراكز مكافحة الأمراض ومنظمة الصحة العالمية.

التبسيط والتفسير

فى صحافة البيانات تزداد الجداول والمؤشرات ولا يدرك القارئ حقيقة علاقته بهذه الجداول المعقَّدة. فالبيانات لا تعني "جداول البيانات" أو حتى "الأرقام". البيانات: هي أي معلومات منظمة، قد تكون منشورة في صفحات وِيب أو مستندات تتبع هيكلًا منتظمًا، أو من خلال تحديثات وسائل التواصل الاجتماعي التي يمكن قياسها بطريقة أو بأخرى. هذا لا يعني أيضًا اقتصارها على التقارير الصادرة عن مؤسسات الدولة ولكن يمكن الحصول عليها من المنظمات الخاصة أيضًا. يعتبر فهم ذلك _والقدرة على اكتشاف المعلومات المنظمة والفرص التي تبرزها_ أمرًا محوريًّا لرؤية خيوط القصة وتوصيلها بسلاسة إلى الجمهور.

حيث يمكن أن تحسن البيانات قصة معقدة ويمكن أن تزيدها تعقيدًا، وهذا يتوقف على الطريقة التي نقدم بها البيانات إلى الجمهور. فبرغم أن الجمهور يبحث عن التحليلات والتقارير المعمقة إلا أن الأرقام بصيغتها الخام تبدو عصية الفهم على الأغلبية.

إن لم تعكس البيانات البشر في نهاية المطاف فهي لا تعني لهم الكثير حتى ولو كانت بالغة الأهمية، فنحن نتعامل يوميًّا مع أعداد الوفيات ونحسب نسبة زيادة الرقم دون أن نعكسة في صورة إنسانية. الرقم رغم ضخامته يبقى أقل تأثيرًا في الجمهور، فيمكن من حالة إنسانية واحدة أن تكون مدخل قصة لسرد الكثير من البيانات الأخرى.

من حيل تبسيط البيانات وأنسنتها تحويلها من أرقام إلى حروف، فعلى سبيل المثال بدل القول بأن الحالات ارتفعت بنسبة 100% مقارنة بالأعداد السابقة، يقول المحرر إن الأعداد تضاعفت خلال أسبوع، وكذلك بدل القول بأن معدل الوفاة في بلد نسبته 10% مقارنة بـ 20% ببلد آخر يقول: "توفي شخصان في هذا البلد مقابل شخص في البلد محل المقارنة" وهكذا. عليه أن يفكر دومًا كيف يمكن تبسيط الأرقام أو بالأحرى استبدال بها نصوصًا يستطيع العوام فهمها، حيث أن النسب والمعدلات صيغ عصية على الغالبية وتستخدم عادة في التقارير البحثية.

كما أن الصور البصرية لديها القدرة على تجاوز حواجز البيانات، على الرغم من أن التكنولوجيا جعلت نشر البيانات الكبيرة في المواقع الإخبارية  "أسهل" إلى حد ما ، فإن القدرة على فهمها يمكن أن تكون صعبة بدون تمثيل مرئي، ولهذا السبب فإن استخدام تصور البيانات أصبح في غاية الأهمية.

نشر موقع الواشنطن بوست في الولايات المتحدة مقالًا استخدم فيه المحرر رسومًا لكرات متحركة لإظهار كيف يمكن أن يؤدي التباعد الاجتماعي إلى إبطاء انتشار Covid-19 ما جعل القصة الصحفية من أكثر القصص المقروءة على الموقع.

دراسة حالة نموذجية لمجتمع صحافة البيانات الأوسع. لم تكن المعلومات الواقعية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، ولكن هناك الآن حاجة أكبر إلى جعل البيانات ذات معنى للجماهير. وهذا ينطبق على تغطية كوفيد 19 وما بعدها أيضًا.

صورةإظهار الأثر والبحث عن حلول

إن الجائحة، أو التفشي الواسع النطاق للمرض، ليست مجرد قضية علمية، وبالتالي فالجمهور يحتاج إلى معرفة أثر الجائحة على كافة نواحي الحياة، لا سيما أن انعكاساتها بدأت مع اليوم الأول من انتشار الجائحة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. تغيرت سلوكيات الناس الشرائية والاستهلاكية.

إن القراء يبحثون عن تحليلات إضافية وخدمات إخبارية متنوعة، وهنا تأتي قدرة صحفي البيانات على التنقيب في رزم المعلومات، يمكن استخدام البيانات لتوفير رؤى أعمق لما يحدث حولنا وكيف يمكن أن تؤثر علينا. يمكن للبيانات أن تساعد الصحفيين على توفير التحليل والمعلومات التي يحتاجونها حتى يتمكنوا من فهم القضايا المهمة في اليوم.

صورة

في كثير من الأحيان لا يمكن لحزمة واحدة من البيانات أن تعطيك إجابة شاملة عما تبحث عنه وتحاول إثباته في تحقيقك، مثلًا وجود بيانات عن مؤشر قياس ترحيب دول العالم بالأشخاص الذين يتقدمون بطلب اللجوء إليها، هذه البيانات قد تشير إلى أن دولًا يرحب سكانها باللاجئين في حين أن دولًا أخرى لا ترحب.

إذن كيف يمكنك إضافة شيء جديد إلى تقاريرك؟ يمكن أن تكون البيانات السياقية مفيدة بشكل خاص في وقت مثل هذا، ويمكن أن يساعد اختصار مشكلة إلى أجزائها الرئيسية في التركيز على السياق الذي يستحق النشر.

إن جودة القصة ليست في أهمية ما فيها من بيانات وحسب، بل في الأسئلة التي تقود البيانات إلى طرحها. إن زاويتك الجيدة هي ببساطة طريقة جديدة لتقديم المعلومات أو مساعدة المستخدمين على التعامل معها.

لا يمكن النظر إلى هذه الأهداف بمنظور أفقي أو منفرد، حيث أن جميع هذه الأهداف تتداخل وتتقاطع  بعضها مع البعض، وبتحقيق إحداها قد يتحقق البقية، فبتحقيق التفسير يتحقق التبسيط والإخبار تباعًا.

عمرو العراقي هو زميل في مركز نايت للصحافة التابع للمركز الدولي للصحفيين 

الصورة الرئيسية حاصلة على رخصة الإستخدام على أنسبلاش بواسطة مركز علوم وهندسة النظم بجامعة جونز هوبكنز