التقصي وتدقيق الحقائق.. المهمّتان "الأصعب" في سوريا

نوشته Ali Al Ibrahim
Oct 30, 2018 در الصحافة الاستقصائية

مع غزارة التدفق الإعلامي اليومي للأخبار والمواضيع عن الحرب السورية وتبعاتها، لم تعد المواد الصحفية أو الأجناس الإعلامية (أخبار، تقارير، تعليقات، تحقيقات، تحليلات..) تقاس بتكامل عناصرها أو جودة منتَجِها الإعلامي وإنما بدِقّة المحتوى ووجاهة المعلومات التي تنشر وقابليتها على التأثير وصنع رجع صدى (Feedback) لدى المتلقين، بل وحتى مِهنِيّة التغطية الصحفية وتكامل عناصر المنتج، إضافة للدور الأبرز في كشف الحقائق من خلال كشف المستور والبحث ما وراء الخبر.

انتشار الفوضى وتقويض سلطة القانون على امتداد الجغرافيا السورية، وحالتا الرغبة بالاستحواذ والسيطرة المتوفرتان عند مختلف الأطراف بغية تعزيز الوجود وخاصة من قبل الأطراف المتحاربة بدون النظر إلى الغايات، جعلتا المواطن السوري هو الضحية، وهو أبرز من انتهكت حقوقه وعنّف، ولم يسمح له بالتعبير خشية مخالفة ورأي الأقوى وخاصة من يملك السلاح.

وعلى الساحة الإعلامية السورية التي أصبحت تعاني من تخمة في الأخبار والتقارير على اختلاف منصات البث والنشر، وعلى أن ما كان يعرض بصراحة خلق تأثير كبير لدى الجمهور العالمي، إلا أن ضخامة وهول المأساة كانت تستحق المزيد من النبش والبحث عن خفايا يراد لها أن تبقى في الخفاء.

السعي وراء الحقيقة

ولدت الحاجة للصحافة الاستقصائية في سوريا، في البحث والتحرِّي والتَّحُقُّق من المعلومات المتدفقة واختبار الأفكار والفرضيات والقصص الصحفية، وذلك في مسعى لكشف الحقائق مقرونة بوثائق وأدلة ووضع المسؤولين والسياسيين والفاعلين والمتورطين في مواقعهم المختلفة تحت مجهر الرصد.

واقترن ذلك باندفاع صحفيين ومحققين استقصائيين سوريين، نحو هذا المضمار بعدما كانت جهودهم فردية وأصبحت لاحقا جمعية، وتحت مظلة واحدة هي في وحدة التحقيقات الاستقصائية السورية - سراج. كما أن عدم وجود "صحافة عميقة" قادرة على التأثير في سوريا على مدار نصف قرن تقريباً، كان الدافع الأهم لتأسيس شبكة - سراج، كأول وحدة تحقيقات استقصائية سورية مع بداية عام 2016.

أداة تدقيق

تتعاظم مسؤولية الصحافة الاستقصائية حالياً في سوريا، كأداة رقابة وتحقق في ظل استمرار توالي الأخبار والمعلومات وعدم قدرة الصحفيين ذوي الكفاءات والخبرات على التغطية على أرض الواقع بسبب انعدام الأمان وتعرضهم للاختطاف والقتل، وكان هذا بمثابة أكبر تحدي للمراسلين والصحفيين.

أمام هذا الواقع كان للمواطن الصحفي والناشط الإعلامي، الدور الأبرز في نقل الصورة للعالم من حيث جال بكاميرته على الجبهات وبين ركام المنازل المدمرة وراح يرصد أوضاعاً اجتماعية واقتصادية بالغة السوء لتسليط الضوء على معاناة السكان.

وكانت منصات النشر المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي الفضاء الأرحب الذي ينشر ويذاع عليه ما يورد من الداخل السوري على مدار السنوات السابقة، ولقد خلق هذا مجالاً لاعتمادها في بعض الأحيان كمصادر أولية لدى بحث الصحفيين عن معلومات عند الشروع بكتابة تقارير أو تحقيقات عن سوريا، ومن هنا كانت الخشية بأن تكون هناك معلومات واردة مغلوطة أو مزيفة أو منقوصة وأحيانا منحازة بالوصف، لذا كان من الضروري وضع آلية تساهم في الابتعاد قدر الإمكان عن التحيز وعن الأخبار المشبوهة أو المضللة.

وحول القواعد العلمية والمهنية في البحث والتحرِّي والتَّحُقُّق من المعلومات واختبار الفرضيات والقصص الصحفية، يؤكد الصحفي السوري محمد بسيكي رئيس تحرير وحدة التحقيقات الاستقصائية السورية سراج: أن التحقق من المعلومات هو من أهم المراحل التي يمر بها الصحفي الاستقصائي لدى الشروع بإنجاز تحقيق استقصائي، وعلى الصحفي أن يمتلك الحكمة والصبر، وأن يكون لديه أدوات وأن ينفرد بها، وفي الحقيقة كلما زادت معرفته بهذا الجانب كلما كان المنتج أكثر جودة وجنبه تبعات أخلاقية وأحياناً قانونية.

ويضيف: هناك الكثير من الطرق التي يجب تتبعها للوصول للمعلومات الدقيقة من مصادرها الأولية، وخاصة لتلك المنتشرة على الانترنت أو مواقع التواصل الاجتماعي، ويمكن القيام بذلك عبر مواقع مخصصة تتيح إمكانية البحث والتحقق عن الصور ومقاطع الفيديو وحتى الوثائق على اختلاف أنواعها ومهما كانت مصادرها، وتتيح التدريبات المتخصصة في هذا المجال للصحفيين سواء كانت ورش جماعية أو تدريبات أونلاين لتسليح الصحفيين بمهارات البحث والتحقق.

طبيعة البيئة الصحفية السورية

تصبح هذه المهمات أصعب في بيئة عمل صحفي كالبيئة السورية، حيث هناك تشابك واختلاط وتضارب في المعومات بسبب ورودها من أكثر من جهة، وسط السيل المتدفق من الأخبار اليومية والمتعلقة بالحرب من مختلف الأماكن، ما يخلق مجالاً للشك حول ما يجري، ويخلق تساؤلاً كبيراً لدى المتابع.. هل حصل هذا فعلاً؟

كان لوحدة التحقيقات الاستقصائية السورية سراج، تجربتان في تدقيق الحقائق والتأكد من المعلومات والصور والتثبت من روايات الشهود والقصص من خلال تدقيق الحقائق في فيلم آخر الرجال في حلب وفيلم يوم في حلب، الفيلمان حصدا جوائز عالمية واتبع الصحفيون في سراج منهجهية عملية وعلمية للتأكد والتحقق من المعلومات.

وفي هذا الصدد يوضح بسيكي أن التدقيق في المعلومات قبل اعتمادها وعبر مقاطعتها مع عدة أطراف يعطي الموضوع المنوي التقصي عنه قوة، ويحقق موثوقية لدى القارئ، وفي ذلك تحقيقاً لأهم أخلاقيات الصحافة وهي الدقة ثم الموضوعية وعدم التحيز، واعطاء كل الأطراف مساحة مناسبة للرد.

حيث يجب عملياً استقصاء المعلومة والتحقق من حدوث الظاهرة من أكثر من مصدر والسعي ورائها، وسؤال صاحبها الحقيقي إن أحجم عن التعاون، كم شخصاً يعرف هذه المعلومة التي بحوذتك؟ وفي ذلك طرق لبابا عن مصدر آخر ربما يكون متاحاً ومفتوحاً. ومن ثم يجب وضع المعلومات في السياق العام الذي وردت فيه، سواء في بيئة حرب أو سلام أو عنف أو حصار أو غيره.

بعدها يمكن الركون إلى المعلومات التي تم التحقق منها وفق ما ذكر آنفاً، وهو ما نعمل بموجبه في وحدة التحقيقات الاستقصائية ومع الصحفيين الاستقصائيين.

يؤكد بسيكي على أن أهم خصائص الصحافة الاستقصائية هي التحقق من المعلومات الواردة وسط سي جميع الأطراف في سوريا إلى إخفائها عن الرأي العام لأن ظهورها لا يخدمهم وربما تشكل إدانة بحقهم.

وبهذا وعند الشروع بكتابة فرضية لتحقيق استقصائي فإنك كصحفي استقصائي ستنطلق من وجود خلل أو انتهاك ما أو فساد في موضوع معين، وستجد أيضاً شخصاً او جهة "إما تنتهك عرفاً، أو تستغل قانونا أو وضع سياسي أو اجتماعي لصالحها، أو تتربح بطريقة غير شرعية بالاستفادة من حالات عامة أو مناصب"، وهذا ما يعرف بالطرف الأسود في التحقيق.

وستجد كنتيجة لذلك "طرفاً أبيض" وهم الضحايا الذين تضرروا من أفعال الطرف المتسبب، ليأتي بعد ذلك دور الأطراف "الرمادية" وهم الخبراء المستقلون والمحللون ومن يمكنهم الحكم على الظواهر من منظور مجتمعي أو فني.

عند تكامل الأطراف الثلاثة، يمكن القول بأن لدينا تحقيق استقصائي بعد أن تجاوزنا مرحلة البحث والتحقق والتدقيق مما بين ايدينا من وثائق وصور وتسجيلات بالتعاون مع خبراء ومحللين وصحفيين.

الصورة الرئيسية لقلعة تدمر حاصلة على رخصة المشاع الابداعي على فليكر بواسطة تدمر الجديدة.


مقالات بیشتری نوشته

IJNet contributor

Ali Al Ibrahim

Ali Al Ibrahim is an investigative journalist and co-founder of SIRAJ. He has won the 2018 BBC Young Reporter award, the GIJN award for investigative journalists, and the Samir Kassir Award for Freedom of the Press. Al Ibrahim is also a researcher and trainer in investigative journalism, and TED global fellow.