رنا صباغ تناضل من أجل العدالة في الشرق الأوسط

Dec 12, 2024 في الصحافة الاستقصائية
الصورة لرنا الصباغ

عندما كانت رنا صباغ فتاة صغيرة في الأردن، عرّفتها والدتها الألمانية على مفهوم Gerechtigkeit، والذي يعني "العدالة" أو "الإنصاف"، وقد دارت مسيرة صباغ المهنية كصحفية استقصائية حول هذا المبدأ: أنّ تحقيق العدالة والمُساءلة وسيادة القانون له أهمية كبرى خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تستغل الحكومات والقوى النافذة سلطتها غالبًا للإفلات من تداعيات الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي.

وفي عام 2004، شاركت صباغ، الفائزة بجائزة Knight Trailblazer لعام 2024 من المركز الدولي للصحفيين، في تأسيس شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية (ARIJ) لتدريب الصحفيين الاستقصائيين في الشرق الأوسط. وخلال عملها الممتد على مدار 15 عامًا كمديرة تنفيذية، قامت بتوجيه جيل كبير من الصحفيين العرب، الذين كان لهم دور بارز في الكشف عن الفساد وإساءة استخدام السلطة في مصر وسوريا، وغزة، ولبنان ودول أخرى.

واليوم، تواصل صباغ كبيرة محرري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مشروع الإبلاغ عن الجريمة المُنظمة والفساد العابر للحدود (OCCRP) قيادة التحقيقات الاستقصائية الكبرى، وتناولت في تقاريرها قضايا تهريب المخدرات المدعوم من قبل الحكومة، والفساد الحكومي، والتهرب من العقوبات وغيرها من الموضوعات. وقد أدت تحقيقاتها إلى فرض عقوبات دولية، وإصدار مذكرات اعتقال، وتحقيقات جنائية، إلى جانب تأثيرات أخرى مهمة.

وبالطبع، جعلت تقارير صباغ منها هدفًا في مرمى نيران الجهات النافذة، فقد تم التنصت على هواتفها، وتسببت الهجمات التي تعرضت لها في معاناتها من الإرهاق، بسبب كثرة الضغوط النفسية، ولاسيما عندما ضغطت عليها السلطات للاختيار بين بلدها ودورها كصحفية. ولكنها لم تتوقف عن تسليط الضوء على الجرائم التي يريد أصحاب السلطة إخفاءها.
وقالت صباغ: "لا أستطيع السفر إلى ثماني دول على الأقل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، مضيفةً: "ولكنني لا أهتم حقًا بالسفر إلى هذه الدول، و​​ما يهمني هو أن أتمكن من سرد القصة وكشف الفساد، وأتمنى أن أحقق تغييرًا بسيطًا من خلال نتائج العمل الذي نقوم به".

 مسار مهني مستقل 
وقد بدأت صباغ مسيرتها المهنية في عام 1985 كصحفية في صحيفة جوردان تايمز الناطقة باللغة الإنجليزية. وبعد عامين، انضمت إلى وكالة رويترز كنائبة لرئيس مكتب الوكالة في الأردن.
وفي اليوم الثالث من توليها المنصب، تلقت معلومات عن وجود أعمال شغب مناهضة للحكومة في جنوب البلاد، وذلك في الفترة التي كانت فيها الدولة تخضع للأحكام العرفية، وكانت المعلومات خاضعة لرقابة مُشددة.
وكان أول سبق صحفي كبير لها- والذي دفع ملك الأردن إلى قطع زيارته إلى واشنطن العاصمة والعودة إلى البلاد ــ بمثابة كشف مبكر للمخاطر المرتبطة بالتغطية الإعلامية في المنطقة. وعلقت على ذلك قائلةً: "كنتُ في المكتب، وكلما سمعت طرقًا على الباب، كنت أظن أنهم قادمون لاعتقالي".
وأجرت صباغ خلال عملها في وكالة "رويترز" الكثير من التغطيات الصحفية عن الأحداث الرئيسية في الشرق الأوسط، مثل عملية السلام بين إسرائيل والأردن، وحرب الخليج عام 1991، والصراعات الداخلية في الأردن، وذلك في الوقت الذي كانت تواجه عدة تحديات مثل التمييز على أساس الجنس، واستخفاف زملائها بقدراتها.
وتتذكر صباغ قائلةً: "لم تكن هناك نساء يغطين أعمال الشغب، بل كان الصحفيون من الرجال الذين يحملون الكاميرات، وكانوا ينظرون إليّ وكأنهم يقولون: "ما الذي تفعله هذه الفتاة هنا؟"، مضيفةً: "كانوا ينظرون إليّ باستخفاف لأنني نصف أجنبية. أنا شقراء، أنا فتاة، فلم يكن أحد مثلي يعمل في مثل هذه المهام الشاقة، ومع ذلك كنت أجلس على الرصيف في انتظار ظهور ياسر عرفات في الرابعة صباحًا لأنه كان الوقت المخصص لإجراء المقابلات معه".

Sabbagh in Mauritania
رنا صباغ في موريتانيا

وعادت صباغ إلى صحيفة جوردان تايمز في عام 1999 كرئيسة تحرير، لتُصبح أول امرأة في منطقة بلاد الشام تتولى رئاسة صحيفة سياسية. وحولت الصحيفة من منصة ناطقة باسم الحكومة إلى صحيفة مستقلة. وفي هذا الصدد، تقول صباغ: "قمت بتطوير المحتوى المحلي، وبدأ الجميع يطلقون عليها صحيفة معارضة"، وأضافت: "أنا لست شخصية معارضة بطبعي، ولكنني محترفة. وقمت بإعادة هيكلة الصحيفة وفق النهج المُتبع في رويترز".

ولكن صباغ دفعت ثمنًا باهظًا لممارستها هذه الاستقلالية، فقد أرسلت صحفيًا للتحقيق في مزاعم التعذيب التي ارتكبتها السلطات الأردنية رداً على أعمال الشغب في جنوب البلاد، ثم نشرت مقالاً افتتاحًيًا يدعو إلى إجراء تحقيقات في استخدام التعذيب داخل مراكز الشرطة.
وبعد مقاومتها لضغوط الحكومة لتبني الرواية الرسمية التي تنفي أن وفاة أحد المحتجين كانت نتيجة للتعذيب، فواجهها رئيس مجلس إدارة الصحيفة، وأخبرها أنها لن تشغل منصب رئيس التحرير بعد الآن. وبعد ذلك غادرت صباغ صحيفة جوردان تايمز، وعلقت على ذلك قائلةً: "لأنني استخدمت كلمة تعذيب" في صحيفة تمتلك الحكومة 60٪ من أسهمها مما أثار غضبهم"، وأضافت: "لقد تم الاستغناء عني في ثانية واحدة".
ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي أُجبرت فيها صباغ على الاختيار بين إصرار الحكومة على ولائها لوطنها، أو الحفاظ على استقلاليتها كصحفية.

إدخال الصحافة الاستقصائية إلى الشرق الأوسط
وكان من الممكن أن تكون إقالتها عن إحدى الصحف البارزة الناطقة باللغة الإنجليزية في المنطقة بمثابة نهاية لمسيرتها المهنية، ولكن صباغ حوّلت هذا التحدي إلى فرصة لإعادة تشكيل مسار الصحافة المستقلة في الشرق الأوسط. ففي عام 2005، شاركت في تأسيس شبكة ARIJ، وهي أول شبكة للصحفيين الاستقصائيين في المنطقة.
ولم يكن إدخال مفهوم الصحافة الاستقصائية إلى المنطقة العربية بالمهمة السهلة. ففي ذلك الوقت، كانت المعرفة بكيفية إجراء التحقيقات الاستقصائية شبه معدومة في المنطقة العربية، وأكدت صباغ: "عندما بدأت العمل في شبكة أريج، لم يكن أحد يعرف ما هي الصحافة الاستقصائية، حتى أنا لم يكن لدي أي فكرة. لكنني كنتُ صحفية جيدة جدًا، وتدربت في رويترز، وكنت أعرف كيفية بناء المصادر، وحمايتها، وأساسيات البحث، وهذه هي الأساسيات في الصحافة الاستقصائية".
وإدراكًا للحاجة المُلحة للتدريب، عقدت شبكة أريج ست ورش عمل سنويًا للصحفيين الاستقصائيين الطموحين لتطوير قصصهم، وخلال فترة إدارة صباغ، أجرى المشاركون حوالي 600 تحقيق استقصائي معمق. وبتمويل من منظمة اليونسكو، أعدت أريج أيضًا دليلاً تدريبيًا، ولا يزال يُدرَّس حاليًا في الجامعات في جميع أنحاء العالم.
وبحلول نهاية فترة قيادة صباغ التي استمرت لمدة 15 عامًا في شبكة أريج، قامت المنظمة بتدريب أكثر من 4000 صحفي، من بينهم صحفيون حائزون على جوائز من غزة ولبنان ومصر، وغيرهم.
وأشارت صباغ إلى أنّ "شبكة أريج قدّمت إنجازًا مذهلاً للشرق الأوسط. ففي المستقبل، عندما يتحدثون عن الصحافة الاستقصائية، سيذكرون أريج باعتبارها الرائدة في إدخال هذا النوع من الصحافة إلى المنطقة العربية".

Text
صباغ تُعلّم الصحفيين مهارات الصحافة الاستقصائية في ورشة تدريبية

المخاطر والمكافآت المتعلقة بمحاسبة السلطة
وقد استقالت صباغ من أريج في عام 2019 لإفساح المجال أمام قيادة جديدة، ولكنها واصلت التحقيق في قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة. وفي عام 2020، أصبحت كبيرة محرري مشروع الإبلاغ عن الجريمة المُنظمة والفساد العابر للحدود (OCCRP) لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث كشفت تورط النظام السوري في الاتجار بمنشط الكبتاجون، كما فضحت تحويل ملايين الدولارات إلى الخارج أثناء الأزمة الاقتصادية في لبنان، وسلطت الضوء على كيفية تحويل بنك عراقي الأموال إلى جهات يُشتبه في تمويلها للإرهاب، إلى جانب قصص أخرى مهمة.
وقد حققت تحقيقات صباغ تأثيرًا حقيقيًا، إذ دفعت نحو دعوات لإصلاح العقوبات في الاتحاد الأوروبي، وساهمت في تمرير مشروع قانون في الولايات المتحدة يهدف إلى تفكيك المنظمات الإجرامية المُتورطة في الاتجار بالمخدرات في سوريا. وقالت: "في بعض الأحيان يكون التأثير سريعًا، وأحيانًا يستغرق وقتًا، وأحيانًا أخرى يُبنى على خطوات سابقة على مر الزمن"، ثم أضافت:  "أنا متحمسة جدًا لأن التغطيات الصحفية الجيدة تخلق دائمًا تأثيرًا، سواء كانت مقالة تحليلية أو تحقيقًا مُعمقًا، ليس بالضرورة أن يكون تحقيقًا استقصائيًا؛ فالمهم هو جودة العمل الصحفي".
ورغم إدراك صباغ للمخاطر المُترتبة على إجراء التحقيقات الاستقصائية، إلا أنها واجهت تحديات كبيرة، فقد تم احتجازها من قبل السلطات عدة مرات، وتعرضت هواتفها للاختراق باستخدام برنامج التجسس "بيجاسوس" وذلك خلال الفترة التي كانت تجري فيها تحقيقًا في قضايا تتعلق بمسؤولين أردنيين رفيعي المستوى.
وحذرت صباغ من أن التطورات التكنولوجية قد حملت معها العديد من التحديات الجديدة للصحفيين الاستقصائيين. وعبرت عن ذلك قائلةً: "لا تزال هناك حروب في الشرق الأوسط، ولكن العداء لم يتغير مقارنة بالسنوات الماضية، وما تغير هو الأمن السيبراني والسلامة الرقمية. لقد أصبحوا أكثر تطورًا وذكاءً، سواء كانوا عملاء للدولة أو جماعات المافيا، كما أصبح من السهل جدًا العثور على وسائل التشفير وأجهزة التنصت".
ما هي نصائحك للصحفيين الاستقصائيين؟ اعرف جيدًا ما الذي تواجهه، وكن مُستعدًا للاعتراف به إذا لم يكن المجال مناسبًا لك. وفي هذا الصدد، قالت: "الأمر ليس سهلاً، لكنه يتطلب شغفًا، كما يتعين عليك أن تكون شخصًا يؤمن بالعدالة، والمساءلة، وسيادة القانون، ومعاقبة الفاسدين الذين يسيئون استخدام أموال دافعي الضرائب، ويستغلون مناصبهم لقمع الآخرين، وسرقة ثروات الناس"، واستطردت قائلةً: "إنه مجال صعب، وإذا لم تتمكن من تحمل تداعياته، فلا تُقدم على دخول هذا المجال".
ومع ذلك، فإنّ الحاجة إلى الصحافة الاستقصائية المُؤثرة أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى في المنطقة. على سبيل المثال، فإنّ الحرب بين إسرائيل وحماس ستُتيح فرصًا للتحقيق في مستقبل وجود شركات الأمن في غزة، وعقود حفر الغاز البحري، والمنتفعين من الحرب الذين يجنون الأموال من الفلسطينيين الذين يحاولون مغادرة غزة، بالإضافة إلى غيرها من أفكار التحقيقات الأخرى، وذكرت: "من المتوقع أن يستشري الفساد بشكل كبير، مما يزيد حاجتنا إلى إجراء الكثير من التحقيقات الاستقصائية".
وأثناء تسلمها جائزة Knight Trailblazer Award، أعربت صباغ عن تقديرها وامتنانها للعديد من الزملاء الذين عملت معهم. وقالت: "أهدي هذه الجائزة لكل من عملت معهم على مدار أربعين عامًا، فهؤلاء الأشخاص كانوا رائعين، وآمنوا بما كنت أرغب في تحقيقه"، مضيفةً: "أتقدم بوافر الشكر والتقدير لأعضاء فريق عملي، أو الأشخاص الذين قاموا بتدريبي، أو من قمتُ بتدريبهم، وكنا جميعًا ندعم بعضنا البعض".
وتواصل صباغ التأكيد على أهمية الدور الذي تلعبه الصحافة الاستقصائية في نقل الحقيقة إلى أصحاب السلطة في الشرق الأوسط ــوخاصة في ظل التحديات الجسيمة، واختتمت حديثها قائلةً: "أسمع اليوم من يقولون: المجتمع لم يعد مهتمًا بالصحافة الاستقصائية. وهذا الكلام عار من الصحة، فالمجتمع يواجه عدة صعوبات، كما أنّ الأوضاع الاقتصادية والسياسية صعبة للغاية". وأضافت: "أسأل نفسي، متى كانت الأمور سهلة يومًا ما؟ لم تكن سهلة أبدًا".


الصور مُقدمة من رنا صباغ.