تواجه قضايا النساء وتمثيلها في الإعلام الكثير من التهميش، ورغم ذلك لا تخلو الساحة من محاولات جادة تظهر بين آنٍ وآخر، فكل فترة تخرج منصة إعلامية تركز على قضايا النساء بمنظورها الخاص، وتحارب للصمود في المشهد الإعلامي الذي يواجه تحديات كبيرة تهدد استقلالية الإعلام واستمراريته، مع اختلاف الوسائط وانتشار البودكاست في السنوات الأخيرة، بدأت بعض المحاولات الإعلامية الجادة في إنتاج برامج بودكاست نسوية تطوع الصوت لخدمة قضايا النساء، ذلك لأنه يمتلك أدوات يمكن أن تخدم نقل قصص النساء وأصواتهن، لا يمكن أن يقدمها المحتوى المرئي أو المكتوب.
في هذا الإطار، أسست إسرا صالح، وهي صحفية وباحثة ومنتجة بودكاست مصرية، "سلمون بودكاست" وهو مساحة صوتية نسوية، تناقش قضايا النساء السابحات عكس التيار والمجتمع، تمامًا مثل سمكة السلمون. يعطي هذا البودكاست مساحة لكل امرأة تخرج عن الأطر المجتمعية التقليدية، وغالبًا ما يرفضها المجتمع، رغم أنها تمارس حقها.
بدأت إسرا هذا المشروع عندما أدركت أنّ هناك فجوة جندرية كبيرة في الإعلام العربي، وأنّ أصوات النساء وقصصهن متجاهلة، لذلك رأت أنه من واجبها كامرأة نسوية وإعلامية، فتح مساحة لسد هذه الفجوة، وتقديم مساحة من النساء للنساء لسرد قصصهن ومشاركة تجاربهن، في موضوعات يعتبرها المجتمع "تابو"، كمحاولة لبناء أرشيف يحمل سردية نسوية، كجزء من تاريخ النساء الشفهي في المنطقة، لأنه عادة ما يتم تجاهل قصص النساء.
وقد ألهمتها في ذلك تجربتها الشخصية كامرأة عربية، تعاني وكل النساء في محيطها، من تحديات متشابهة، بسبب تقاطع التجارب على اختلافها، "من المهم أن نتحدث عن مدى صعوبة التغيير لكي تكون المرأة مختلفة عن السائد"، تقول إسرا لشبكة الصحفيين الدوليين.
وعن التحديات التي تواجهها في صناعة البودكاست تقول إنّ هناك تحديات مرتبطة بفكرة البودكاست كنشاط نسوي، لأنه يناقش موضوعات غير مقبولة اجتماعيًا، لذا كثيرًا ما يكون هناك تعليقات مسيئة، بالإضافة إلى تحديات الوجود في عالم يؤمن بالمؤسسات حسب قولها "نحن مبادرة ناشئة وفريق العمل صغير وهذا يصعب علينا المشاركة في مؤتمرات وفاعليات عدة، فهناك تحديات لعدم الاعتراف بنا". تحلم إسرا بأن توسع المبادرة، تحت نفس الإطار، ولكن بشكل أكبر.
أما رشا الديب وهي بودكاستر ومستشارة دولية للبودكاست، فقد أنتجت "بودكاست قصصنا" الذي يؤرخ قصص سيدات عشن داخل مصر من طبقات وفئات مختلفة، ويحكين الحكاية بأصواتهن. اختارت رشا أن تجرّب نوعًا من السرد القصصي غير الممنهج، بإعطاء مساحة كاملة لصاحبات القصص ليروينها بأنفسهن، حيث تكون القصة هي البطل، وهو قراءة صوتية لرشا حول مفهوم "المفشات" التراثي في صعيد مصر، وهو مكان تذهب إليه النساء لـ "فَش" همومهن ومشاكلهن في جلسة مغلقة، فتحاول أن تحكيه رشا صوتيًا بإعطاء المساحة للنساء لإبراز غضبهن.
في "قصصنا"، النساء المهمشات هن الراويات، وهن نساء من الطبقة المتوسطة من الدلتا والصعيد واللاجئات، كلهن عشن في مصر، وقد اختارت الديب أن يكون البودكاست نسويًا لأنها رأت أن هناك تجارب نساء تستحق أن تروى وأن تُشارك مع نساء أخريات، "أرى أنّ قصص النساء مكررة على اختلاف المكان والزمان، ولكن السيدات لا يستفدن من هذا التكرار لأنهن لا يشاركن القصص، وإن تمت مشاركة هذه القصص يمكن أن يساعدهن على إحداث تغيير ولو برفض الانتهاك" تضيف رشا، وما يقدمه "قصصنا" هو نقل التجربة الحقيقية كما هي، فهو يعكس قصص حقيقية، موجودة بيننا، بحسب رشا.
أصرّت الديب في بودكاست "قصصنا" أن تحكي النساء قصصهن بأنفسهن لأنفسهن، فتصل اللغة بشكل أفضل، ويتم تجنب نسوية المؤسسات واللغة الفوقية، وهذا يختلف عن أشكال البودكاست الأخرى التي تحكي فيها المرأة شهادة ما وتكون جزءًا من القصة، لا صاحبة القصة كلها، ففي رأي رشا لكي تُسمع القصة يجب أن تكون محكية بجمال، فالتصريحات والشهادات لا تُسمع بشكل جيد لأنها ليست قصصًا.
تشارك رشا تحدياتها في صناعة هذا المحتوى، وهو جمع القصص، ومشاركة النساء لقصصهن، من المناطق المذكورة، وتقول إنّ التجارب في الصعيد كانت عنيفة ومأساوية، فكان نقل القصص المباشر مرهقًا على كل المستويات.
حاولت رشا أن تقدم شيئًا مختلفًا للنساء بطلات حلقاتها، وهو من إيمانها النسوي بما تقدمه وليس فقط للبودكاست، فلم تجمع النساء للكلام مباشرة، بل مهدت لهن ذلك، عن طريق قضاء يوم ترفيهي شاركت فيه مدربة علاج بالرقص، ومدربة لتساعد النساء قبل مشاركة قصصهن وتهيئهن للحكي، وتساعدهن على قضاء وقت لطيف ولو بشكل مؤقت.
وتستكمل رشا حديثها عن التحديات لشبكة الصحفيين الدوليين أن "ما تقدمه محتوى تأريخ شفهي غير ممنهج، فالتأريخ يجيب عن سؤال واحد وهو كيف نتذكر، وهذا يتعارض مع الجمهور وما يريده المستمعون بأن أضع القصة على مقياس، وبالتالي لا يدرك المستمعون دائمًا الهدف من البودكاست، ولماذا يختلف عن باقي الأشكال".
كذلك تنصح رشا من تريد أن تصبح منتجة بودكاست بأن يكون لديها فضول لمعرفة إجابة على سؤال ما، لأن المحرك الرئيسي هو ما سيدفعها للاستمرار، سواء كانت طاقة غضب أو ألم أو سعادة فهي التي تحرك، بجانب ضرورة صياغة الأسئلة في شكل قصصي، وإعطاء المساحة للنساء أنفسهن وليس للأكاديميات.
الصوت ينقل القصة بما فيها من حميمة وموثوقية
لا يمكننا ذكر البودكاستات النسوية العربية بدون أن يرد بودكاست "عيب" وهو من إنتاج منصة "صوت" الأردنية، في حديث مع المنتجة المسؤولة حاليًا راما سبانخ، التي قالت إنّ البودكاست بدأ عام 2016، في وقت كانت فيه مساحة فارغة للإنتاج الصوتي النسوي، لأن المساحات المتاحة كانت إما مكتوبة أو مرئية والإنتاج المكتوب كان موجودًا منذ زمن بعيد والإنتاج المرئي له تحديات كثيرة، أما الصوت فينقل القصة بما فيها، مع توفير الحماية لأصحاب القصص.
"بدأ عيب من هذا الفراغ وطرح معلومات جريئة ذات وقع صادم على الجمهور، تحدثنا عن الإجهاض والمثلية، ثم انتقل إلى الحديث عن الجسد والمساحات ولا يزال مستمرًا حتى الآن في تناول موضوعات متنوعة وجريئة"، تقول راما وتشير إلى أن "عيب ليس بودكاستًا نسويًا بل يتبنى العدسة النسوية ويطرح مساحة نسوية، كما أنه منفتح للحديث عن أمور، الشأن العام غير مستعد للحديث عنها إلا لإثارة الجدل، ويمكن أن تناقش قضايا أخرى غير مجتمعية مثل السياسة".
ترى سبانخ أنّ البودكاست كوسيط صوتي سردي تحكي فيه النساء عما يحدث لهن، بدون اللقاء مع بعضهن البعض، يزيد من الشعور النسوي بالتضامن، ويعطي المساحة للنساء للحديث، على عكس الوسائط الأخرى، وكما وصفت رشا آلية عمل بودكاست "قصصنا فبودكاست "عيب" يتحدث أيضًا عن التطبيق وليس النظرية، فبحسب راما "نحن لا ننسلخ عن الواقع ونصف القضية بفوقية، بل نصف مشاهد منه، بحكي أصحاب القصص لتجاربهن".
وتضيف أنّ هناك تحديات حول اسم البودكاست نفسه "عيب"، وهذا يعني ضمنيًا أن أي قصة ستُناقش داخل البودكاست ستصنف على أنها "عيب"، وهذا صرف بعض الضيوف عن بعض حلقات البودكاست سابقًا، لأنهم لا يرون أن ما سيتحدثون عنه عيب، "التصنيف نفسه إشكالي، ولكن المعيار هو الحديث عن التابوهات المجتمعية وكل ما يؤطره المجتمع" تقول راما.
وتتابع: "لدينا محتوى جدلي وتعليقات سلبية ولكن ذلك لم يمنعنا أو يغير اتجاهنا، ولم نلغ حلقة واحدة أو ننسحب من الحديث في موضوع معين بسبب هذه التعليقات أو الهجوم، كذلك لدينا تفهم حول اختلاف تفضيلات الناس وآرائهم، لذلك لا نمارس عليهم ما يمارسونه علينا"، وتضيف أن هناك تعليقات إيجابية كثيرة من تجارب المنتجين ومجتمعاتهم أو من التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي.
تستكمل راما أن البودكاست الصوتي حاليًا يعاني، فهناك هيمنة من المانحين على أن يتم تغيير المنتج الصوتي إلى فيديو كاست، فالطريقة الأبرز لجلب عائد مادي من البودكاست هي تحويله لمنتج فيديو على يوتيوب، مما يعني تغيير في الامتيازات التي يقدمها الصوت كوسيط، وتستكمل "ربما يمنح الفيديو شيئًا جديدًا، لكن الأهم أن هناك مساحة للتجريب".
الصورة الرئيسية حاصلة على رخصة الاستخدام على أنسبلاش بواسطة Kelly Sikkema.