يتغير المشهد الإعلامي بوتيرة سريعة، حاملاً معه تحديات وفرصًا واعدة للصحفيين المستقلين. ويتطلّب إيجاد نماذج مستدامة في هذه البيئة المتغيرة، مع بناء جمهور متفاعل يمتلك قدرًا كبيرًا من الابتكار والقدرة على التكيّف.
وخلال مهرجان الصحافة الدولي لعام 2025 في بيروجيا بإيطاليا، تحدث الفائزون بجائزة المركز الدولي للصحفيين (ICFJ) لمبدعي الأخبار للتميز في صحافة الفيديو عن طرقهم في التعامل بنجاح في مجال الإعلام، وشاركوا استراتيجيات عملية ركزت على المحتوى، وبناء المجتمعات، والسرد القصصي، والاستدامة، مقدمين نصائح مهمة لزملائهم الصحفيين الباحثين عن تواصل فعّال مع الجمهور وترسيخ مكانتهم في ظل المشهد الإعلامي المتغيّر باستمرار.
الأساس: إنشاء محتوى يجذب الجمهور
في ظل الكم الهائل والمتدفق من المعلومات، يكمن تميز الصحفيين المستقلين غالبًا في جودة محتواهم ومدى ملاءمته للجمهور المستهدف. وقد اتفق المتحدثون على أن إنتاج محتوى يلبي احتياجات الجمهور ويلقى صدى حقيقيًا هو الخطوة الأولى لبناء قاعدة جماهيرية. فالأمر لا يقتصر على مجرد نقل الحقائق فقط، بل يتعلق بتقديم ما يراه الجمهور ذا قيمة وضرورة.
كما قال آدم كول، المنتج المستقل في مجال الفيديو والصوت، فإن إنتاج محتوى ذي قيمة هو الخطوة الأولى والأساسية لجذب الجمهور والحفاظ عليه، واتفقت معه في الرأي جلوريا تشان، الشريكة المُؤسسة لمنصة Green Bean Media، قائلة: "نحن نؤمن بجودة وتنوع المحتوى الذي نقدمه للمستخدمين".
ويتضمن الالتزام بالجودة تقديم تحليلات متعمقة وفريدة وزوايا جديدة قد تغفل عنها المؤسسات الإعلامية الكبرى أو يصعب على الجمهور العثور عليها في أماكن أخرى. وعندما ينجح الصحفيون في رصد هذه الفجوات المعرفية أو التحليلية وسدّها، فإنهم يضيفون قيمة حقيقية لعملهم.
من جانبها، قالت تشان إن تقديم القيمة الحقيقية للجمهور غالبًا ما يكون هو المحفّز للنمو الطبيعي، حيث يتوسع الجمهور بشكل تلقائي عبر التوصيات والاهتمام الحقيقي، مما يساعد في بناء قاعدة جماهيرية أكثر ولاءً وتفاعلًا مع مرور الوقت.
أهمية التفاعل المجتمعي
إلى جانب إنتاج محتوى عالي الجودة، فإن نجاح الصحافة المستقلة يعتمد غالبًا على بناء شعور بالانتماء للعمل الصحفي، وهو ما ذكره المتحدثون مؤكدين على أهمية الابتعاد عن النموذج التقليدي القائم على عملية نقل الأخبار فقط، وأهمية الانتقال إلى نموذج تفاعلي يكون فيه الجمهور جزءًا من عملية الإبداع. وهو ما أوضحه يوري فرنانديز، الشريك والمدير العام في منصة #Colabora البرازيلية، فقد شرح كيف دفعه التفاعل الأولي مع الجمهور على يوتيوب إلى إنتاج المزيد من المحتوى للحفاظ على استمرارية النقاش.
ويبدأ بناء جمهورك من حيث يتواجد الجمهور نفسه، ولذلك من المهم التواجد على عدة منصات مثل الموقع الإلكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي المناسبة، والنشرات البريدية، وحتى الفعاليات غير الرقمية مثل العروض أو ورش العمل، للوصول إلى جمهور أوسع. وأوضح صامويل مونيا، رئيس قسم التحقيقات في Africa Uncensored، أن المحتوى يجب أن يُصمم بما يتناسب مع كل منصة لتحقيق أكبر قدر ممكن من التأثير. وعلى سبيل المثال، تناسب الفيديوهات القصيرة منصة إنستجرام، أما الفيديوهات الطويلة فتلائم منصة اليوتيوب بدرجة كبيرة. كما أن الالتزام بجدول نشر منتظم وواضح يعكس مصداقية الجهة الإعلامية ويحافظ على تفاعل الجمهور بشكل دائم. وأضاف مونيا أن الاستمرارية وجودة الإنتاج هما الأساس.
كما يُمكن للصحفيين تعزيز شعور الانتماء لدى جمهورهم من خلال الاهتمام بالرد على التعليقات، وإنشاء مساحات مخصصة للنقاش، وذلك من خلال أقسام التعليقات، أو المنتديات، أو مجموعات التواصل الاجتماعي. وهذا التفاعل المستمر يُسهم في تعميق التواصل مع الجمهور وتعزيز ولائه، بالإضافة إلى تحويل القرّاء من متلقّين سلبيين إلى مشاركين نشطين.
وفي هذا الصدد، اقترح مونيا دمج ملاحظات الجمهور وأسئلتهم، أو المحتوى الذي ينتجونه في عملية إعداد التقارير الصحفية. وقال: "عندما تنتشر القصص على نطاق كبير يعود إلينا الجمهور ويزوّدنا بالمزيد من القصص؛ فالجمهور يعتبر جزءًا من عملية توليد الأفكار والإنتاج"، موضحًا بأن هذا الأسلوب يعزز العلاقة مع الجمهور ويكشف عن أفكار جديدة وزوايا متنوعة، مما يُثري العمل الصحفي ويمنح الجمهور شعورًا حقيقيًا بالتقدير والاستماع.
سرد القصص الصحفية كاستراتيجية أساسية
وفي هذا الوقت الذي يمتلئ بالكم المتدفق من المعلومات، تُعتبر القدرة على سرد القصص الجذّابة أداة قوية للصحفيين المستقلين الذين يريدون الوصول إلى الجمهور. وقد سلط مونيا الضوء على أهمية "بناء هيكل القصة وحبكتها وذلك من أجل الحفاظ على تفاعل الجمهور من البداية إلى النهاية". فعندما تُدمج الحقائق داخل القصة، تصبح المعلومة أكثر تأثيرًا، وسهولة في التذكّر، وارتباطًا بالواقع.
وفي هذا الصدد، يعتمد الصحفيون المستقلون على إبراز زوايا فريدة، وإضفاء الطابع الإنساني على القضايا المعقدة من خلال القصص الشخصية، واستكشاف وجهات النظر التي لا تحظى بقدر كاف من التغطية لتمييز أعمالهم. وهذه الروايات المؤثرة تشجع بطبيعة الحال الجمهور على مشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أعطى فرنانديز مثالاً عن موسم من برنامجه الذي أصبح رائجًا، حيث حصد آلاف التعليقات، وشارك فيه الناس لصور يظهرون فيها مع عائلاتهم، مما يعكس عمق الروابط العميقة بين الجمهور والمحتوى. هذا الانتشار الطبيعي لا يُقدّر بثمن، فالمحتوى الناتج عن الجمهور غالبًا ما يتمتع بأعلى درجات المصداقية والثقة.
وفي جميع التغطيات الصحفية والتفاعلات مع الجمهور، يجب أن يرتكز السرد القصصي الفعّال على الضوابط والمعايير الأخلاقية الصارمة. وقد أشار كل من كول ومونيا إلى أن الحفاظ على الدقة، والشفافية في الأساليب، والإنصاف في التعامل مع المصادر، ووضوح التصحيحات عند وقوع الأخطاء، هي أمور لا يمكن التنازل عنها، كما شدد مونيا على أهمية حماية المصادر لبناء الثقة وتشجيع الآخرين على الإدلاء بآرائهم.
الاستدامة وقياس الأثر الحقيقي
تعتمد جدوى الصحافة المستقلة على المدى الطويل على نماذج تشغيلية مستدامة. وينبغي على الصحفيين أن يقوموا بتنويع مصادر دخلهم، بدلًا من الاعتماد على الإعلانات التقليدية أو منحة واحدة، لأن الاعتماد على مصدر تمويل واحد يجعلهم عرضة للخطر. وقد اقترح المتحدثون البحث عن مصادر دخل متعددة مثل اشتراكات القرّاء، والتبرعات المباشرة، و الرعاية، والإعلانات الموجّهة.
ويتطلب هذا النهج من الصحفيين تطوير مهاراتهم في الأعمال التجارية إلى جانب مهاراتهم التحريرية، كما شجع المتحدثون الصحفيين على تجاوز شعورهم بعدم الكفاءة في الأمور التجارية، مرددين مقولة جيمة صالح المحرر في BBC ،New والذي أشار إلى: "حتى وإن كنت صحفيًا، والمحتوى هو الأساس، عليك أن تفكر كرجل أعمال"، وهو ما اتفق معه كول مشيرًا إلى طريقته الخاصة، إذ أنه يتعامل مع الميزانيات كبيانات يمكن التحقيق فيها، مما يجعل الجانب المالي أكثر سهولة وقابلية للفهم.
فيما حذر المتحدثون من الاعتماد فقط على المقاييس الكمية لقياس النجاح مثل عدد المشاهدات أو أعداد المشتركين، لأن ذلك قد يكون محدودًا. واقترح مونيا رؤية أوسع للأثر، وذلك من خلال التركيز على الآثار الحقيقية للعمل الصحفي على حياة المجتمعات مثل دوره في تعميق معرفة الأشخاص بما يدور حولهم، وتمكين الأفراد في شتى المجالات، ومحاسبة المسؤولين، أو الإسهام في حدوث تأثيرات سياسية ملموسة. ويُعد الاعتراف بهذا التأثير النوعي مهمًا في تعزيز الدافعية لدى الصحفيين، وإظهار قيمة العمل لكل من الممولين والجمهور.
ويتطلب هذا الطريق قدرًا كبيرًا من الصبر والمرونة. وأشار كول إلى أن الجهود قد تكون بطيئة أو محبطة في بداية الأمر، ولذلك من المهم بناء شبكة دعم أو بدء مشروعك مع شريك يمكنك الاعتماد عليه. وأكد على "أن كل مشروع عملت عليه، تمنيت لو أنني بدأته في وقت مبكر"، مضيفًا: "إذا بدأت الآن، ستواجه بعض التحديات وستتعلم ما تحتاج إليه لكي تنجح، وذلك فنصيحتي الوحيدة إليك: لا تنتظر".
وقالت تشان: "ثق بنفسك وبحدسك"، وأضافت قائلةً: "ما تؤمن به، يمكنك العمل عليه. فلا يوجد شيء لا يمكنك تجربته".
كما نصح مونيا الصحفيين باختيار مجال يتخصصون فيه، والحفاظ على الاتساق والجودة، وبناء شراكات موثوقة. وحثهم قائلاً: "لا تجلسوا في منطقة الراحة"، وأضاف: "لا تكتفوا بما وصلتم إليه، بل واصلوا التقدم في المجال".
وقد اختتم فرنانديز حديثه قائلاً: "عليك أن تحب المحتوى الذي تقدّمه"، وأضاف قائلاً: "عندما بدأتُ المجال، لم يكن لديّ دعم مالي، لكن كانت لديّ قصص رائعة، والقصة أهم من أي شيء آخر".
الصورة الرئيسية المنشورة في المقالة مُقدمة من مانويلا كالاري.