الغزو الروسي لأوكرانيا. التظاهرات في كازاخستان. الثورة في بيلاروسيا. كلها أحداث كبرى تجعل المجتمعات أكثر استقطابًا.
ولكن الصحفيين لدى مشروع Factcheck.kz الكازاخستاني يؤمنون بأنّ الجهود المعززة للتحقق من المعلومات يمكنها أن تتغلب على مثل هذا الاستقطاب.
الوعي الإعلامي في كازاخستان
يُعدّ موقع Factcheck.kz أول مبادرة للتحقق من المعلومات في آسيا الوسطى. وقد بدأت قصته عام 2014، في أعقاب ثورة الميدان الأوروبي في أوكرانيا، حيث سافر الصحفي والمحرر الكازاخستاني عادل جليلوف ليرى ما كان يحدث بنفسه، ولكنه صُدم عند عودته إلى كازاخستان بمدى اختلاف تفسير الناس للأحداث.
وفي هذا الصدد، قال جليلوف: "رأيت الجميع يتجادلون حول الأمر. وعلى الرغم من بُعد الميدان، إلّا أننا نُعتبر الحديقة الخلفية لروسيا، لذا نتعرّض للكثير من الدعاية الروسية، ولا سيما خارج المدن الكبرى".
وإدراكًا منه لإشكالية معدلات الوعي الإعلامي في كازاخستان، سعى جليلوف إلى إطلاق "منارة للصحافة" من أجل نشر الحقائق، فقد أدرك أنّ التحقق من المعلومات هو بالضبط ما يحتاجه. وأوضح قائلًا: "بصفتي صحفيًا مخضرمًا، أرى أنّ الصحافة التقليدية أصبحت مملة الآن، وأفضّل عنها التحقق من المعلومات، فالجميع بحاجة إلى المهارات الأساسية في هذا المجال".
يعمل جليلوف في مجال الإعلام منذ منتصف التسعينيات، وقد شغل منصب المدير لدى موقع "Vlast" الإلكتروني ومنصة حقوق الإنسان "صوت آسيا الوسطى". أمّا اليوم، فيعمل رئيسًا لمركز MediaNet الدولي للصحافة، ولموقع Factcheck.kz الذي أسّسه.
ولإطلاق موقع Factcheck.kz، تعاون جليلوف مع غرف الأخبار الأخرى وأبرز منظمات التحقق من المعلومات حول العالم، ثم جمع الفريق التحريري ودرّبه.
وفي هذا الإطار، قال جليلوف إنّ "أفضل الخبراء بهذا المجال في الاتحاد السوفيتي السابق يعملون في أوكرانيا وجورجيا. وقد اخترنا غرفة الأخبار الأوكرانية Stopfake، التي نظمت لنا سلسلة من الاجتماعات مع أبرز مدققي الحقائق".
العمل من دون "حماية"
لم يكن من السهل تأمين التمويل لموقع Factcheck.kz، ولكن تمّ إطلاق المشروع في مارس/آذار 2017 بمساعدة مؤسسة "سوروس".
وقد أوضح جليلوف أنّ "أول ما فعله الفريق هو السؤال عن الحدود: من لا يمكن المساس به [في تغطيتنا الصحفية]؟ وسيفهم ذلك أي صحفي في زمن ما بعد الاتحاد السوفيتي. وقد أجبت على السؤال قائلًا: ’دعونا نحاول ألا نخشى أحدًا‘. وسألوني ’هل هذا ممكن؟ هل لدينا أي [منظمة تحمينا من الضغوط الخارجية]؟‘. فقلت: ’لا، ولكننا سننضم إلى شبكة دولية للتحقق من المعلومات".
وأشار إلى أنّ الشبكة الدولية لتدقيق الحقائق (IFCN)تضمّ بعضًا من أفضل منظمات التحقق من المعلومات في العالم. وموقع Factcheck.kz من بين هذه المنظمات، على الرغم من الخطر الذي ينطوي عليه العمل في كازاخستان، حيث يتلقى المحررون التهديدات عبر الرسائل والمكالمات الهاتفية. وأثناء تفشي الجائحة، هدد مناهضو التطعيم بحرق غرفة الأخبار مرات عدّة.
وأضاف جليلوف أنّه يقول للجميع "نحن جزء من شبكة تضم منظمات من جميع أنحاء العالم، وكلها تدافع عنّا، بما فيها صحيفة واشنطن تايمز".
زيادة الجمهور
في سنته الأولى، نظّم القائمون على الموقع العديد من ورش العمل في مختلف المدن الكازاخستانية، وقد كانت هذه الورش كاملة العدد. ومن خلالها، درّب الموقع محررين من دول أخرى في آسيا الوسطى، بما فيها قرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان.
واليوم، يجري المشروع استطلاعات الرأي ويدير دورات تدريبية في مجال التحقق من المعلومات وينظم جلسات تدريب مع الخبراء، بينما ينتج فريق التحرير كتبًا عن الوعي الإعلامي للطُلاب وأدلة إرشادية للمعلمين. كما ينشر الموقع مقالات عن منهجيته في التحقق من المعلومات.
وأضاف جليلوف: "أحيانًا أتلقى لقطة شاشة من محادثة في الحي يشير فيها المتحدثون إلى منشوراتنا عندما يتجادلون حول أمر ما. كما يقرأ أعمالنا نواب البرلمان ومجلس الشيوخ. واكتشفنا مؤخرًا أنّ النواب يهنئون بعضهم البعض إذا أكّد الموقع أنّ أحدهم لم يخطئ في تصريحاته".
وقد وصل عدد الزيارات إلى ذروته أثناء تفشي الجائحة، ووصلت إلى 200,000 زائر في اليوم. أمّا الآن، فيستقبل الموقع ما بين مليون ونصف ومليوني زائر كل شهر، إلى جانب حوالي 30,000 متابع على إنستجرام وأكثر من 13,000 متابع على تيليجرام. كما يخطط الموقع للتعاون مع مؤسسات إعلامية صغيرة في كازاخستان لزيادة عدد قرائه.
ويحصل الموقع على تمويله بالكامل من مانحين غير حكوميين. وفي هذا السياق، قال جليلوف: "لا أريد أن أصبح تابعًا – فأنا لست موهومًا بشأن رئيسنا وحكومتنا الاستبدادية، التي أفرغت فكرة حرية التعبير من قيمتها تمامًا. وبالنسبة لهم، الإعلام ما هو إلّا أداة دعائية".
سبل التحقق من المعلومات
ينبغي أن يتوخى الصحفيون الحذر بشكل خاص عند العمل في مجتمعات مستقطبة. فالتحقق من المعلومات بدقة وفعالية مهم للغاية في مثل هذه الظروف.
ففيما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا على سبيل المثال، "أجرينا استبيانًا عبر مكتب رصد الرأي العام Demoscope، وصدمتنا النتائج: إذ وُجد أنّ حوالي 70٪ من الكازاخ يدعمون الحرب. وهنا أدركنا أن الدعاية الروسية [أثرت على نظرة الناس إلى العالم بدرجة كارثية]".
ولتعزيز مهارات التحقق من المعلومات، يمكن للصحفيين أن يستخدموا محركات البحث بشكل أفضل للتحقق من النصوص والصور والفيديوهات والروابط. ويرى جليلوف أنّ "حتى الصحفيين لا يستخدمون محركات البحث إلّا بنصف في المئة من قوتها الحقيقية. فعليك أن تعلم كيف تعدّل هذه الأنظمة وتستخدمها بما يتجاوز البحث المتقدم. ولا تستخدم جوجل فحسب، بل إنّ في بعض الحالات يمكن لمحرك Yandex أو غيره من الأنظمة أن يساعدك كثيرًا".
كما يمكن للصحفيين أن يستفيدوا من الأدوات الجديدة لكشف الفيديوهات المزيفة والمفبركة، إضافةً إلى الخدمات التي تقيس الوصول إلى الجمهور ومشاركاته، مثل أداة تحليل المحتوى Popsters.
وأضاف جليلوف: "تخيل ظهور خبر ما. عليك أن تجد الحساب الذي نشر القصة للمرة الأولى باستخدام محرك البحث، ثم تحقق من وصول الحساب ومشاركاته وضع قائمة بالمشتركين المحتملين الذين ينشرون هذه المعلومات. ويمكنك التحقق مما إذا كان نُشر آليًا بالنظر إلى وقت النشر فمثلًا، قد يكون الخبر مزيفًا إذا نشرته العديد من المصادر في التاسعة صباحًا".
وتابع أنّ هذه الأدوات بسيطة، ولكن عن استخدامها معًا يمكنها أن تكون في غاية الفعالية. وقال إنّه "من المهم ألّا تبحث عن الصورة أو الفيديو فحسب، بل أن تتحقق أيضًا من وقت النشر. ومن المهم كذلك أن تتمكن من تحليل البيانات الوصفية لملفات الوسائط المتعددة، وأن تستطيع معرفة ما إذا تمّ تعديل الصورة".
وأخيرًا، نصح جليلوف باللجوء إلى الأساليب البسيطة للتحقق من المعلومات، قائلًا: "ذات مرة، سألني أحدهم عن جسم غير معروف فوق سطح مبنى قريب. فصورته وأجريت بحثًا عبر جوجل، فاتضح أنّها محطة 5G بسيطة".
"جعلنا التحقق من المعلومات رائجًا مرة أخرى"
أمّا بالنسبة للأحداث التي وقعت في كازاخستان في يناير/كانون الأول عام 2022، فجليلوف مقتنع أنّها أدت إلى تغييرات كبرى في البلاد. فقد بدأت بالتظاهرات، ثم العنف في الشوارع، ما أدى إلى عنف الشرطة.
وقال إنّ "أحداث يناير – الوحشية والدموية وغير المفهومة – غيرت الكثير من الأمور في البلاد. فقد تعرّض العديد من الناس إلى إطلاق النار، وقُتل أطفال أثناء تنقلهم في السيارات. حتى إنّ إحدى الفتيات أصيبت بسبع رصاصات".
ولكن ما تغير كان أكبر من ذلك. فلم يعد الناس يقبلون بالعيش كما كانوا، وأصبحوا يطالبون بالمزيد من الحرية. وأشار جليلوف إلى أنّ هذا يمثل تحديًا أمام مدققي الحقائق: ففي الكثير من الأحيان، يطلب القراء التحقق من المعلومات حول الموضوعات الأكثر إثارة للجدل. وقال إنّ "مهمتنا هي التأكد من أنّ المنطق أهم من العاطفة، وأن الناس يفكرون بشكل صحيح".
وعند إطلاق الموقع، شارك جليلوف رسالته لجمع الروس والكازاخ معًا، قائلًا: "آمل أننا أصبحنا منارة ومرجعًا للعديد من مؤسسات الإعلام. فالناس يثقون بنا عندما نصف الحقيقة أو الزيف. وقد فتحنا نافذة إلى عالم التحقق من المعلومات المتحضر – ووضعنا المعايير وجعلنا التحقق من المعلومات رائجًا مرة أخرى".
الصورة الرئيسية من موقع Factcheck.kz.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في النسخة الروسية من موقعنا، وقد تمت ترجمته إلى الإنجليزية والعربية.