ارتبطت التحقيقات الاستقصائية في أذهان الصحفيين والجمهور بكونها رحلة طويلة قد تمتد لأشهر أو حتى لسنوات، نظرًا لما تتطلبه من إجراء بحث متعمق في قضايا معقدة ومتشابكة. وساهمت المؤسسات الصحفية في ترسيخ هذا الانطباع، مثلما كان شائعًا في الماضي أن التحقيق الاستقصائي لن يكتمل إلا باستخدام الكاميرا الخفية أو التسجيلات السرية، لكن هذا التصور لم يعد دقيقًا. فالتحقيق الاستقصائي يمكن أن يُنجز في مدد زمنية مختلفة —طويلة أو متوسطة أو قصيرة— وفقًا لعوامل متعددة، منها مدى وضوح الفرضية، وإتاحة البيانات، وتوظيف الأدوات والتقنيات التكنولوجية، وجمع الوثائق والمستندات والتحقق من مصداقيتها.
أدوات الصحفي الاستقصائي
أنجزت الصحفية سيزرينا دميلو من OCCRP تحقيقًا حول الجريمة المُنظمة في البلقان خلال شهرين فقط، بفضل خبرتها في تقنيات البحث المُتقدّم واستخدام المصادر المفتوحة. وفي المقابل، فإن تحقيق وثائق بنما استغرق أكثر من عام، بسبب التعامل مع 11.5 مليون وثيقة تطلبت تحليلًا دقيقًا باستخدام أدوات مثل بايثون وإكسيل وSQL، حيث لعب الصحفيون المتخصصون دورًا في تحليل البيانات الضخمة.
ووفقًا للبحث الذي نشره خليل النظامي في المجلة الدولية للبحوث العلمية في عددها الرابع الصادر في يناير/كانون الثاني 2025 بعنوان "التحديات المهنية والأخلاقية للصحافة الاستقصائية وعلاقتها بالممارسة الصحفية"، فإن 26.9% ممن لم يمارسوا الصحافة الاستقصائية أرجعوا السبب إلى نقص الخبرة، مما يؤدي إلى إطالة مدة الإنجاز، ويقلل من فعالية النتائج.
صياغة فرضية التحقيق الاستقصائي
ينبغي صياغة فرضية التحقيق بشكل دقيق ومحكم لأنها بمثابة البوصلة التي توجه البحث وتمنع الصحفي من التشتت. وتساعدك الفرضية المُحكمة في:
- تحديد المصادر بدقة.
- تنظيم البيانات وتحليلها بسرعة، عبر رسم علاقات واضحة بين الأدلة.
-تجنب المخاطر غير المحسوبة، مثل الدخول في مسارات معقدة قانونيًا أو أخلاقيًا.
على سبيل المثال، تحقيق فضيحة واينستين بدأ بمجرد إشاعات عن سلوكيات غير أخلاقية، لكن الفرضية قادت الصحفيتين جودي كانتور وميجان تويه إلى مصادر موثوقة، ووثائق دامغة، مما أدى إلى اكتشاف واحدة من أكبر الفضائح في هوليوود (New York Times, 2017).
لكن إذا كانت الفرضية غير واضحة أو غير قابلة للاختبار، فقد يضطر الصحفي إلى إعادة هيكلة تحقيقه عدة مرات، لذلك تنصح جميع الأدلة التدريبية الصحفيين بصياغة فرضيات مرنة لتسريع وتيرة إنتاج التحقيق الاستقصائي.
العمل الميداني وجمع الأدلةوبعد انتهاء الصحفي من كتابة ومراجعة الفرضية، ينتقل إلى خطوة إثبات الفرضية وذلك من خلال البحث والتقصي وإجراء المقابلات، ويتوقف الوقت الذي يحتاجه الصحفي الاستقصائي لجمع الأدلة وتوثيق المقابلات على عدة عوامل، منها طبيعة التحقيق، مدى توفر المصادر والبيانات، وحجم التحديات القانونية والأمنية.
"في بعض الحالات، يستغرق جمع الأدلة أسابيع، خاصة في التحقيقات قصيرة المدى التي قد تُنجز خلال فترة لا تتجاوز ثمانية أسابيع. هذا النوع من التحقيقات يتطلب سرعة في الإنجاز للحفاظ على قيمته الإخبارية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمواضيع آنية تتطلب جمعاً سريعاً للبيانات والمصادر، مثل تحقيقات الفساد العاجل أو إساءة استخدام السلطة. على سبيل المثال، استغرق تحقيق أجرته وكالة رويترز عام 2021 حول فساد توزيع لقاحات كورونا ستة أسابيع فقط"، حيث اعتمد على مقابلات مع مسؤولين ووثائق حكومية تم تسريبها (Reuters, 2021).
بينما هناك تحقيقات تتطلب فترة تتراوح من ثمانية أسابيع إلى ستة أشهر، والتي تتطلب توثيقًا دقيقًا للمصادر والمقابلات، خاصة في القضايا التي تحتوي على تحليلات لكم كبير من البيانات المعقدة أو التحقيقات الميدانية، وذلك مثلما حدث في تحقيق "العبودية الحديثة في تايلاند" الذي نشرته الجارديان (2014) والذي استغرق 5 أشهر، وشمل مقابلات مع عمال مستغلين، وتحليل وثائق قانونية وإدارية من عدة دول (The Guardian, 2014).
ومن ناحية أخرى، أنتجت الجزيرة نت تحقيقا استقصائيا استغرق العمل عليه أقل من ستة أشهر، وقد أحدث تأثيرًا مباشرًا أدى إلى تغييرات جذرية في إحدى المدارس الفرنسية العريقة، فقد نُشر في 30 أغسطس/آب 2024 وذلك بعد عمل مكثف بدأ في فبراير/شباط 2024، وكشف التحقيق الذي حمل عنوان "شراء الوهم.. صحفيون عرب ضحايا تضليل مدرسة باريس" عن مخالفات أثارت ردود فعل سريعة من جهات متعددة، وبعد شهر ونصف فقط من النشر، تم بيع المدرسة لمجموعة رجال أعمال فرنسيين، وتبع ذلك استقالة مديرها، وبالرغم من التهديدات التي تلقاها الموقع في أوروبا إلا أن الصحفي والموقع كانوا مستعدين بالأدلة التي تثبت فرضيتهم بشكل محكم.
وبعد ذلك، تأتي التحقيقات الاستقصائية التي تحتاج إلى فترات زمنية أطول قد تمتد لأكثر من عام، كما هو الحال في القضايا المعقدة مثل الجرائم المالية الدولية، أو التحقيقات العابرة للحدود التي تتطلب تعاونًا بين فرق صحفية متعددة مثل تحقيقات أوراق بنما.
أهمية إجراء المقابلات الصحفية لتدعيم تحقيقك الاستقصائي
تُعدّ المقابلات عنصرًا مهمًا في التحقيقات الاستقصائية، لكن توثيقها يستغرق وقتًا قد يتفاوت بحسب طبيعة المصادر، ومدى حساسية المعلومات، وشبكة العلاقات التي يمتلكها الصحفي، وقدرته على بناء الثقة مع المصادر.
عندما يتعاون المصدر مع الصحفي، يمكن إنجاز المقابلة خلال ساعات قليلة وتوثيق المعلومات بشكل مباشر. مثال على ذلك تحقيق BuzzFeed News حول استخدام بيانات فيسبوك في الانتخابات الأميركية، حيث تم إجراء مقابلات مع مصادر داخل الشركات خلال فترة قصيرة بسبب تعاونهم الكامل مع فريق التحقيق الصحفي.
أما في حالة المصادر المترددة والتي تخشى العواقب القانونية، فقد يستغرق إقناعها وقتًا طويلًا قبل الموافقة على إجراء المقابلة. ونظرًا لأهمية شهاداتهم في سير التحقيق، قد يضطر الصحفي إلى الانتظار حتى يوافقوا على التحدث. على سبيل المثال، استغرق الصحفيون الذين عملوا على تحقيق قضية Harvey Weinstein عدة أشهر لإقناع الناجيات بالإدلاء بشهاداتهن، بسبب خوفهن من الانتقام(New York Times, 2017).
أما المقابلات السرية التي تُجرى بشكل متخفٍ، فهي تتطلب وقتًا طويلًا، خاصة عندما يستلزم التحقيق التسلل إلى شبكات مغلقة أو استخدام أساليب التخفي لجمع المعلومات، فقد يستغرق وقتًا طويلًا لاكتساب الثقة كما حصل في تحقيق BBC عن الاتجار بالبشر في ليبيا (2017) حيث تطلب أكثر من عام، إذ أجرى الصحفيون مقابلات سرية مع مهربين ولاجئين داخل مراكز الاحتجاز (BBC, 2017).
وعليه فإن تلك العوامل في جمع الأدلة وإجراء المقابلات تؤثر على سير عمل التحقيقات الاستقصائية وسرعة إنجازها فتعاون المصادر يجعل الوقت سلسا وكلما كانت المصادر خائفة أو مترددة، زاد الوقت المطلوب لإقناعها والإعداد للمقابلات.
إذا كانت الأدلة متوفرة من خلال مصادر مفتوحة أو عبر تسريبات، فإن التحقيق يتم بشكل أسرع. أما إذا كان الحصول على المعلومات يتطلب تقديم طلبات رسمية، مثل طلبات قانون حرية المعلومات (FOIA)، فقد تستغرق العملية شهورًا أو حتى سنوات، خاصة في الدول التي تتعمد تعطيل إجراءات النشر لحماية الفاسدين أو لإخفاء الحقائق. في مثل هذه الحالات، يكون على الصحفي أن يضع خططًا بديلة للحصول على المعلومات المطلوبة بدون إطالة أمد التحقيق.
نصائح لتجاوز التحديات
في كل تحقيق استقصائي يواجه الصحفيون تحديات تتجاوز وضوح الفكرة وسلاسة الفرضية وتعاون المصادر، وهي عوائق قد تُطيل من مدة البحث والتحليل. وهذا ما يجعل إنجاز تحقيق استقصائي متكامل في وقت قصير مهمة معقدة وصعبة التنفيذ.
العوائق القانونية تمثل إحدى أهم هذه التحديات، حيث قد يحتاج الصحفي إلى شهور أو حتى سنوات للحصول على مستندات رسمية بسبب قوانين حرية المعلومات (FOIA) أو القيود التي تفرضها بعض الحكومات لحماية مصالحها. في عام 2016، اضطر صحفيون يعملون على تحقيق حول الفساد في عقود حكومية بالولايات المتحدة إلى الانتظار لأكثر من ثمانية أشهر للحصول على وثائق بموجب قانون FOIA، مما أخر نشر التحقيق بشكل كبير (ICIJ, 2016).
أما الحالات التي تكون فيها الوثائق متوفرة، قد لا يتعاون بعض الشهود بسهولة. فالكثير منهم يترددون في مشاركة معلومات حساسة بسبب الخوف من العواقب القانونية أو الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، في تحقيق فضيحة هارفي واينستين، احتاجت الصحفيتان جودي كانتور وميغان توهي إلى شهور طويلة لإقناع الناجيات من التحرش بالتحدث علنًا، بعد توفير ضمانات قانونية ومهنية لطمأنتهن وحمايتهن قبل الإدلاء بشهاداتهن (New York Times, 2017).
ولا يتوقف الأمر عند العوائق القانونية والمصادر المراوغة، بل تمتد التحديات إلى المخاطر الأمنية، خاصةً في التحقيقات المتعلقة بالجريمة المنظمة أو الفساد الحكومي، ففي تحقيق بي بي سي حول المهاجرين في ليبيا اضطر الصحفيون إلى استخدام هويات مزيفة، والعمل مع مصادر محلية بشكل سري، مما أدى إلى تأخير إصدار التحقيق لعدة شهور لحماية الصحفيين والمصادر على حد سواء (BBC, 2017).
إضافةً إلى ذلك، يمثل نقص التمويل عائقًا أمام الصحفيين المستقلين، حيث قد تتطلب التحقيقات طويلة الأمد موارد مالية للسفر، والوصول إلى الوثائق، وتحليل البيانات.
ومثال على ذلك استغرق التحقيق في وثائق بنما أكثر من عام، بفضل دعم الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)، الذي وفّر الموارد اللازمة لتحليل 11.5 مليون وثيقة، مما كان له دور أساسي في اختصار المدة لتكون حوالي عام (ICIJ, 2016).
رغم التحديات الزمنية والعوائق الميدانية، فإن بعض الأساليب الحديثة تساهم في تسريع إنتاج التحقيقات بدون التأثير على جودتها، منها التخطيط الجيد الذي هو الخطوة الأولى لتوفير الوقت، حيث يساعد تحديد المصادر الرئيسية والوثائق المطلوبة مسبقًا في تجنب التشتت خلال مراحل التحقيق والمثل الأبرز هنا عندما عمل الصحفي كارل بيرنستين على فضيحة ووترغيت، اعتمد على خطط بحث واضحة، تتضمن قائمة بأسئلة محددة لكل مقابلة، مما جعله يستخلص معلومات دقيقة بسرعة أكبر (The Washington Post, 1972).
أما استخدام التكنولوجيا فقد غيّر قواعد اللعبة في الصحافة الاستقصائية الحديثة فبفضل أدوات OSINT (البحث عبر المصادر المفتوحة)، وتحليل البيانات باستخدام برامج مثل Excel وPython، أصبح بالإمكان تحليل كميات ضخمة من الوثائق في وقت قياسي. ففي تحقيق وثائق باندورا، استطاع الصحفيون استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لفرز ملايين المستندات واكتشاف الأنماط المالية المخفية خلال أشهر قليلة بدلًا من سنوات (ICIJ, 2021).
إضافةً إلى ذلك، أصبح التعاون الإعلامي وسيلة فعالة لتسريع التحقيقات. فعندما كشف تحقيق The Guardian عن العبودية الحديثة في مصانع الملابس ببنغلاديش، لم يعتمد الصحفيون على جهود فردية، بل تعاونوا مع فريق تحقيقات عالمي، مما مكّنهم من توزيع المهام وتغطية القضية من زوايا متعددة في وقت أقل (The Guardian, 2014).
تحدي التوازن بين الوقت والجودة
يسعى الصحفي الاستقصائي دائمًا للنشر بسرعة، لكنه يدرك أن تحقيقه يحتاج وقتًا طويلًا، مما يجعله يدخل في صراع مستمر مع الزمن لإنجاز عمله ولكن من المهم إدراك أن الصحافة الاستقصائية ليست سباقًا مع الزمن، بل رحلة دقيقة لكشف الحقيقة بمصداقية وتأثير وهنا على الصحفي أن يحقق التوازن بين السرعة والجودة من خلال التخطيط الجيد واستخدام الأدوات الحديثة، والتعاون الفعّال.
رغم أن بعض التحقيقات قد تمتد لسنوات، إلا أن نجاح التحقيق لا يُقاس بطوله الزمني، بل بمدى دقته وتأثيره. فجوهر الصحافة الاستقصائية يكمن في قدرتها على إحداث تغيير ملموس، سواء استغرق ذلك أسابيع، شهورًا، أو سنوات.
في الصحافة الاستقصائية السرعة ليست مبررًا لتجاوز الأخلاقيات المهنية أو اللجوء إلى أساليب غير مشروعة للحصول على الأدلة والوثائق ورغم أن بعض التحقيقات تتطلب البحث العميق والوصول إلى معلومات سرية، فإن الصحفي المهني يلتزم بمعايير النزاهة والشفافية، حتى لو أدى ذلك إلى إطالة زمن التحقيق.
وعليه فإن الالتزام بالأخلاقيات يعزز مصداقية الصحفي ويزيد من تأثير التحقيق، إذ يثق الجمهور أكثر بالتقارير المبنية على أساليب مشروعة. وبين السعي للسرعة والدقة، تبقى الشفافية والمصداقية أساس أي تحقيق استقصائي ناجح.
الصورة الرئيسية حاصلة على رخصة الاستخدام على أنسبلاش بواسطة محمد حسن.