منذ القدم، شكلت البحار والمحيطات -بجانب قيمتها البيئية، مصدر رزق رئيسي لملايين البشر، وتوفر الغذاء لأربعة من كل عشرة أشخاص في العالم، كما ترتبط بها أعمال الكثير من القطاعات مثل الشحن، والمأكولات البحرية، وتوليد الطاقة، وبناء الموانئ والسياحة الساحلية، وغيرها.
كل هذه الأعمال البشرية المرتبطة بالمحيطات شكّلت ما يسميه العالم اليوم "الاقتصاد الأزرق"، والذي من خلاله يعتمد عدد من أكبر الصناعات على صحة المحيطات لتوفير الدخل لمليارات البشر، ووفقاً للأمم المتحدة، تعد المحيطات أكبر نظام بيئي في العالم، إذ تغطي 70% من سطح الأرض وتحتضن نحو 80% من التنوع البيولوجي، في الوقت نفسه، تبلغ قيمة "الاقتصاد الأزرق" سنويا نحو 2.5 تريليون دولار أميركي، وهو ما يعادل سابع أكبر اقتصاد في العالم.
وبالرغم من هذه القيمة الاقتصادية والبيئية الهائلة للمحيطات، فإن التهديدات في تزايد مستمر وعلى رأسها تغير المناخ، والتلوث، والصيد الجائر، وغيرها من الممارسات البشرية المدمرة، وفي المقابل، لا يغطي التمويل المخصص لحماية المحيطات سوى جزءًا ضئيلاً جدا من الاحتياجات الحقيقية، سواء كان التمويل العام أو الذي يتدفق من مصادر خاصة.
"التمويل الأزرق" على رأس اهتمام المعنيين بالمحيطات
في شهر يونيو/حزيران 2025، حضرت مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات في مدينة نيس في فرنسا، ومن بين قضايا عديدة متعلقة بصحة المحيطات، كان "التمويل الأزرق" هو القضية الرئيسية في المؤتمرالذي خرج عنه في النهاية "إعلان نيس للمحيطات"، والذي تضمن حزمة من التعهدات المالية، كما أكد على تسريع تنفيذ خطة «30×30»، التي تستهدف حماية 30% من المناطق البحرية بحلول عام 2030، مع التركيز على ضمان التمويل، ونقل التكنولوجيا، وبناء القدرات، خاصة للدول النامية والجزرية الصغيرة.
ما هو التمويل الأزرق؟
التمويل الأزرق هو جزء من التمويل المناخي والمستدام، يُخصَّص لتمويل المشاريع المرتبطة بالمحيطات والموارد المائية، مثل مصايد الأسماك المستدامة، واستعادة الشعاب المرجانية، والطاقة المتجددة البحرية، أو إدارة المياه الساحلية، وهو يختلف عن التمويل الأخضر الذي يُعنى بالبيئة بشكل عام ويشمل مشاريع مثل الطاقة المتجددة والنقل منخفض الكربون.
وبالرغم من أن المصطلح ظهر حديثاً، إلا أنه جذب الاهتمام لأنه يهدف إلى مواجهة التحديات المُلحّة المتعلقة بتحسين سبل العيش، والحفاظ على صحة النظم البيئية البحرية، لذلك طالب البنك الدولي الحكومات بدمج التمويل الأزرق في خطط التنمية الوطنية، والميزانيات، والأنظمة التنظيمية، كما قال إنه يمكن تعزيز تعبئة رأس المال الخاص على نطاق واسع وخلق فرص العمل من خلال قنوات استثمارية مشتركة التصميم، ومنصات تمويل مختلطة، وشراكات تُوازن الحوافز وتُشارك المخاطر.
وتوقع أن يتضاعف حجم اقتصاد المحيطات ليصل إلى 3 تريليونات دولار أميركي بحلول عام 2030، مُشغّلاً 40 مليون شخص، مقارنةً بعام 2010.
ما الفرق بين أشكال التمويل المختلفة؟ويجب علينا كصحفيين عند كتابة قصص تركز على التمويل الأزرق، أن نفرق بين أشكال التمويل المختلفة التي يترتّب عليها نتائج مختلفة، فعلي سبيل المثال هناك فارق بين السندات والقروض، إذ يعرف البنك الدولي السندات الزرقاء بأنها أداة دين تُصدرها الحكومات أو بنوك التنمية أو جهات أخرى لجمع رأس المال من مستثمرين لتمويل مشاريع بحرية ومحيطية ذات فوائد بيئية واقتصادية ومناخية إيجابية.
أما القروض الزرقاء هي قروض مباشرة تقدّمها بنوك أو مؤسسات تمويل لمشاريع بيئية بحرية أو ساحلية، مثل تحسين جودة المياه الساحلية أو إنشاء بنية تحتية بحرية مستدامة.
والأشكال المختلفة للتمويل ظهرت في الاعلان الختامي لمؤتمر نيس للمحيطات، حيث أعلنت بعض الدول عن مبادرات ملموسة، منها استثمار بقيمة مليار يورو من المفوضية الأوروبية في مشروعات بحرية، وإعلان بولينيزيا الفرنسية عن إنشاء واحدة من أكبر المحميات البحرية في العالم، بالإضافة إلى برنامج ألماني لإزالة الذخائر من البحر بقيمة 100 مليون يورو، وتعهد نيوزيلندا بدعم حوكمة المحيطات في منطقة المحيط الهادئ. كما تم إطلاق تحالف جديد يضم 37 دولة لمكافحة تلوث الضوضاء تحت الماء، إضافة إلى إعلان إسبانيا عن خمس مناطق بحرية محمية جديدة.
فجوة التمويل.. مساحة لعشرات القصص الصحفية
وحين نتحدث عن التمويل البيئي الأخضر أو الأزرق، فلا يمكن أن تمر القصة بدون التطرق إلى "فجوة التمويل"، والفارق الضخم بين الاحتيجات الحقيقية وبين ما يتم دفعه فعلا.
وفقا لإحصائيات حديثة أعلن عنها مسؤولون خلال مؤتمر المحيطات الماضي، فإن النظم البيئية البحرية لا تحصد سوى أقل من 9% من تمويل التنمية المتعلق بالتنوع البيولوجي، وتُقدم جميع مصادر التمويل مجتمعة - العامة والخيرية والخاصة - أقل من 1% من تمويل المناخ والتنوع البيولوجي العالمي للمحيطات.
من هنا تأتي مساحة لعشرات القصص الصحفية حول الاحتياجات الحقيقية لملايين البشر في المجتمعات الساحلية والمهمشة للحصول على تمويل منصف لدعم قدرتهم على الصمود، وتعزيز سبل عيشهم المعتمدة على المحيطات، وربط ذلك بمفهوم "العدالة المناخية"، إذ تشير الإحصائيات إلى أن الدول والمؤسسات الممولة الآن تنفق فقط 3 مليارات دولار سنويًا، في حين أن الاحتياجات الحقيقة للتمويل تبلغ 175 مليار دولار سنويًا لتمويل العمل المتعلق بالمحيطات.
مصادر يمكن الاستعانة بها لفهم المزيد عن التمويل الأزرق:-إرشادات من الأمم المتحدة تشرح كيفية مساعدة السندات الزرقاء في توفير التمويل لدعم اقتصاد المحيطات.
-دليل تمويل الاقتصاد الأزرق، بالاعتماد على مبادئ السندات الخضراء ومبادئ القروض الخضراء، مقدم من المؤسسة المالية الدولية، وهي عضو في مجموعة البنك الدولي.
-التقرير السنوي لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) حول اقتصاد المحيطات، واستعرض التقرير الأخير الذي صدر في مارس الماضي، فئات المشاريع الزرقاء المؤهلة لتوجيه استثمارات مؤسسة التمويل الدولية لدعم الاقتصاد الأزرق، بما يتماشى مع مبادئ السندات الخضراء ومبادئ القروض الخضراء.
-دليل البنك الدولي لتسريع التمويل الأزرق، ويقدم تقييمًا لأشكال مختلفة من التمويل التي تندرج تحت التمويل الأزرق، مثل تقييم آليات التمويل الأزرق، ويدرس هياكلها المالية، ومتطلبات تنفيذها، وكيفية أدائها عبر فئات مثل السندات السيادية الزرقاء، ومقايضات الدين بالطبيعة، ومنتجات التأمين، وصناديق التأثير.
-مبادرة One Ocean Finance "تمويل واحد للمحيطات": مبادرة تمويل عالمية أطلقتها مجموعة من وكالات الأمم المتحدة وشركائها، تدعو المؤسسات للمشاركة في توجيه رؤوس الأموال من القطاعات المعتمدة على المحيط، مثل الشحن والموانئ والصيد، نحو مشاريع مناخية بحرية ومجتمعية مستدامة، ودعم المجتمعات الساحلية.
-اطلع على بيانات أداة تتبع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، ومن بينها الهدف الرابع عشر المتعلق بالحياة البحرية.
نصائح للصحفيين عند تغطية قصص التمويل الأزرق:
-راقب من خلال الدراسات العلمية وتقارير المؤسسات المعنية، الفجوة الكبيرة بين ما تم التعهد به وبين ما يتم إنفاقه بالفعل.
-إذا كنت تكتب قصة عن مشروع معين حصل على تمويل أزرق، يمكنك مراقبة شفافية إنفاق التمويل في محله، ومدى كفايته لتنفيذ أهداف المشروع، أو من ناحية أخرى، يمكنك أن تكتب قصصاً عن مشروعات أخرى مهمشة لا يهتم الممولون بها لأنها خارج دائرة الضوء.
-غالبا ما تتقاطع القصص التي تتتضمن زاوية عن التمويل الأزرق مع قضايا أخرى مثل التنوع البيولوجي وصحة المحيطات والصحة البشرية، لأن كل العناصر مرتبطة ببعضها، لذا احرص على أن توضح هذا الاتصال في قصتك، وأن توضح أن التمويل ليس مجرد مشكلة هامشية، بل هو الأداة الرئيسية لتحقيق أهداف أساسية لا غنى عنها.
-سلط الضوء على الناس من مجتمعاتك المحلية لأن القصص المرتبطة بالمحيطات دائما ما يكون فيها أبطال منسيون، مثل الصيادين والعاملين في السياحة البيئية والسكان في المجتمعات الساحلية.
-تابع باستمرار التقارير السنوية للجهات المانحة التي تقدم تحليلات حول حجم التمويل الأزرق، ونسب توزيعه بين الدول، وأوجه إنفاقه، ونسبة تدفقه من التمويل العام والخاص.
-لا تتعامل مع قضايا المحيط بشكل منعزل، بل اربطها دائماً بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية.
-لا تقصر تغطياتك الصحفية على موضوعات محدودة متعلقة بصحة المحيطات مثل تغير المناخ أو الصيد الجائر، لأن هناك الكثير من الموضوعات غير المطروقة بكثرة، مثل التعدين في أعماق البحار، وحوكمة المحيطات.
-انضم إلى مبادرة تغطية قضايا المحيطات من "مركز بوليترز"، والتي تجمع شبكة من الصحفيين المهتمين بتغطية قضايا المحيطات.
نماذج لقصص صحفية تعالج قضية التمويل الأزرق
-اتفاقية بقيمة 500 مليون دولار لاستعادة ساحل الجابون تُشعل من جديد الجدل حول تمويل المناخ
وتحكي هذه القصة أنه في أغسطس/آب 2023، أبرمت حكومة الغابون صفقة مع منظمة The Nature Conservancy (TNC) لإعادة هيكلة 500 مليون دولار من ديونها الخارجية، باستخدام "سند أزرق" جديد، وكان هدف الصفقة كان تحرير حوالي 163 مليون دولار لتمويل حماية المحيطات على مدار 15 عامًا.
-نقلة نوعية في سُبل كسب العيش من خلال الأغذية والوظائف الزرقاء.
-قصة "محيط واحد" من برنامج الأمم المتحدة للبيئة تحكي قصص ثلاث مُجتمعات ساحلية في الهند وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبيرو.
الصورة الرئيسية من مؤتمر نيس للمحيطات.