كيف يتغلّب الصحفي نفسيًا على العنف الرقمي ويضع حدوده الرقمية؟ 

بواسطةعبدالرحمن محمودNov 23, 2022 في موضوعات متخصصة
صورة

في مقابل الإيجابيات التي قدمها الإعلام الرقمي بطابعه وأدواته الجديدة إلى وسائل الإعلام بمختلف مجالاتها، إلا أنه شكّل مصدرًا لضغوطات وأزمات نفسية عند الصحفيين؛ نتيجة هجمات رقمية قد تستهدفهم كرد فعل على أنشطتهم أو عقب تناولهم لقضايا كان يرغب أصحابُها أن تبقى طي الكتمان. 

ولا يوجد مصطلح متفق عليه لتعريف "العنف الرقمي" ولكن يمكن اعتباره امتدادًا للعنف على أرض الواقع، يتخذ من شبكة الإنترنت عمومًا وشبكات التواصل الاجتماعي خاصة، قاعدة لاستهداف الآخرين وابتزازهم أو إلحاق الضرر بهم نفسيًا أو جسديًا أو اجتماعيًا وكذلك اقتصاديًا. 

وتتخذ الهجمات الرقمية أشكالًا متنوعة ضد الصحفيين، أبرزها على سبيل الذكر لا الحصر: 

  • التحرش الإلكتروني ويعد من أكثر أنواع العنف الرقمي انتشارًا وأكثرها ضررًا على الصعيد النفسي. 
  • التتبع الخفي والمطاردة الإلكترونية لسرقة بيانات شخصية ومعلومات خاصة ثم نشرها على العلن أو استخدامها كأداة ابتزاز. 
  • نقل رسائل الترهيب والوعيد المباشرة أو غير المباشرة عبر منافذ الاتصال الخاصة كواتساب أو البريد الإلكتروني وصولًا إلى التهديد بالقتل. 
  • انتهاك الخصوصية وقرصنة الحسابات الخاصة بالصحفيين أو السيطرة على بيانات شخصية ومنع صاحبها من الوصول لها. 

وتتسع رقعة الهجوم الرقمي إلى حملات تشويه منظمة ضد الحساب الخاص بالصحفي، بهدف التشكيك في مهنيته وضرب مصداقيته، أو لغاية بث القلق عند الصحفي والمؤسسة الإعلامية التي يعمل لصالحها، وصولًا إلى تهديد النطاق العائلي الاجتماعي، ما يجعل الصحفي يعيش في دائرة من الضغوط النفسية الناتجة عن العنف الرقمي. 

وفي هذا الإطار، يتحدث الصحفي يحيى اليعقوبي عن تجربته مع العنف الرقمي عقب نشره تحقيقًا استقصائيًا تحت عنوان "أراضي موظفي غزة.. الصفقة الخاسرة"، مما جعله في دائرة الاستهداف من قبل تجار ووسطاء عقارات "سماسرة"، حيث كشف عن حدوث تلاعب أدى لخسارة في أسعار الأراضي بنحو 50 إلى 60%. 

ويقول اليعقوبي لـ"شبكة الصحفيين الدوليين": "الهجوم الأول كان أثناء انشغالي في إعداد التحقيق، بعدما علم بعض السماسرة بالقضية التي أعمل عليها، الأمر الذي دفعهم إلى محاولة تعطيل عملي ميدانيًا بمضايقات واعتداءات لفظية، ثم انتقل الأمر إلى الواقع الافتراضي بالترهيب والتهديد بمنشورات كتبت هنا وهناك". 

وما إن شارك اليعقوبي التحقيق الاستقصائي على صفحته عبر فيسبوك، حتى راح يتلقى سيلًا من المداخلات بعضها بأسماء حقيقية وأغلبها بهويات مستعارة، إلا أن القاسم المشترك بينهم هو "التشكيك بنتائج التحقيق والادعاء بأن هناك أجندة خاصة من وراء عمله الصحفي" كما أوضح اليعقوبي. 

ولا يخفي الصحفي أن حالة من الضغط والتوتر النفسي تولدت لديه في اللحظات الأولى من الهجوم الرقمي، والذي كان من نتائجه أيضًا أن طالب بعض الشهود بحذف إفادتهم التي جاءت بالمادة الاستقصائية، رغم أخذ موافقتهم قبل النشر. وهنا يشير اليعقوبي إلى أنه تمكن من السيطرة على الأمر والتعامل مع الصدمات الناتجة عن الهجمات الرقمية السابقة، من خلال: 

  1. الإسراع في تقليص دائرة الهجوم الرقمي وإبطال ادعاءات المهاجمين بشكل موضوعي ضمن مبادئ العمل الصحفي، قبل أن يتأثر بالدعاية الصفراء أصدقاء آخرون فيشاركوا من حيث لا يعلمون بالعنف الرقمي. 
  1. تقديم إحاطة للجهات المسؤولة (الصحفية أو الأمنية) بفحوى المضايقات وآثارها، كخطوة احتياطية لأي تطورات مستقبلية. 
  1. حصر المضايقات وتبعاتها النفسية في سياق ضريبة المهنة وتحديدًا العمل الاستقصائي، وعدم نقلها إلى الحياة الاجتماعية. 

جزء من العمل الصحفي 

الصحفية اللبنانية مريم سيف عاشت تجربة مماثلة من العنف الرقمي استمرت لنحو عامين على فترات متقطعة، وقد واجهتها في البداية من خلال التجاهل، ولكن مع اشتداد موجة العنف الرقمي، لجأت إلى استخدام خاصية الحظر (بلوك) والإبلاغ الإلكتروني. 

وتقول سيف لـ "شبكة الصحفيين الدوليين": "طلبت المساعدة لتولي عملية البلاغات على صفحات تحظى بمتابعة جماهيرية واسعة وكانت تشارك أو تقود الهجمة الرقمية على فيسبوك وتويتر، ثم عززت إجراءات الخصوصية حيث لم يعد بإمكان أي شخص إرسال رسائل ما لم يكن صديقًا لدي". 

وتنصح سيف الصحفيين برفع مستوى تدابير الأمن الرقمي على حساباتهم الخاصة، وتعزيز ثقتهم بعملهم الإعلامي وتحصين ذاتهم مسبقًا، وذلك بهدف إحباط الهدف الأساسي الذي يسعى له أي هجوم رقمي والمتمثل بتشكيل ضغط نفسي على الصحفي لدفعه للتراجع وإخفاء الحقيقة. 

والهجمات الرقمية باتت في عصر الانترنت والتكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من العمل الصحفي، وفق حديث الباحثة الإعلامية بثينة اشتيوي، التي أكدت أن أخطر ما يترتب عليها دفع الصحفي إلى ممارسة الرقابة الذاتية على ما يكتب وما ينشر، في سبيل حماية نفسه ومصالحه. 

وتوضح اشتيوي خلال حديثها لـ"شبكة الصحفيين الدوليين" أن "العنف الرقمي يتسبب بخسائر نفسية ومعنوية قد تجبر الصحفي على اتخاذ قرار بالعزوف عن العمل الإعلامي"، مشيرة إلى أن حدة العنف الرقمي تزداد إن كان متعلقًا بالنوع الاجتماعي. 

وتوثّق دراسة أعدّها المركز الدولي للصحفيين لصالح (اليونسكو)، تداعيات وتأثيرات العنف عندما تنتقل الهجمات من العالم الافتراضي إلى الواقع، فتصبح معدلات التمييز التي تتعرّض لها الصحفيات أعلى، وعن هذا الأمر، قالت أكثر من نصف الصحفيات العربيات اللواتي شاركنَ باستطلاع للرأي إنهن واجهنَ هجمات غير متصلة بالإنترنت لكنهنّ يعتقدن أنها نشأت عبره. 

ووفق تقرير لهيئة الأمم المتحدة للمرأة قامت أكثر من 1 من كل 5 نساء تعرضن للعنف الإلكتروني في المنطقة بحذف أو إلغاء تنشيط حساباتهن على منصات التواصل، كذلك أبلغت 35 في المئة من النساء اللواتي تعرضن للعنف في الفضاء الرقمي عن شعورهن "بالحزن والاكتئاب"، إشارة إلى أثر العنف الرقمي على الصحة النفسية. 

بدورها، تؤكد أخصائية الدعم النفسي يارا سانجاب لـ"شبكة الصحفيين الدوليين" بأنه يمكن للصحفيين مواجهة الأثر النفسي الناتج عن العنف الرقمي من خلال تجنب متابعة تفاصيل الحملات التي تشن ضدهم وعدم إرهاق الفكر بمتابعتها، مع تذكير الذات بشكل مستمر بالمبادئ التي على أساسها انطلق الصحفي للعمل في المجتمع".

ومن الأهمية أيضًا - والحديث لسانجاب - أن يتعلم الصحفي من تجاربه السابقة وتحسين أساليب طرح الأفكار بما ينسجم أكثر مع أسلوب تفكير المجتمع ويزيد رقعة التأثير، مضيفة: "على الصحفي أن يؤمن بوجود شريحة كبيرة تدعمه وتسعى للتغيير الإيجابي مثله وتتفق مع تفكيره، رغم أنه قد لا يجد ذاك الدعم على صفحات التواصل". 

إرشادات لا بد منها 

ويمكن تلخيص أهم النصائح حول كيفية التعامل مع الأزمات النفسية والصدمات التي تسببها الهجمات الرقمية، بالإرشادات التالية: 

أولًا، الدعم الذاتي: 

- أن يبني الصحفي حصانة نفسية، متوقعًا ردود الأفعال وتداعيات عمله، وطلب الدعم المعنوي والمهني من قبل الأصدقاء الصحفيين. 

- التعامل بمسؤولية عالية مع أي هجوم رقمي، بعيدًا عن ردود الأفعال السريعة التي قد تأتي بنتائج عكسية. 

- عدم التردد في التواصل مع مرشد نفسي، من أجل التعامل الآمن والسريع من الضغوطات التي قد تنتج عن العنف الرقمي. 

ثانيًا، الاحتياطات المسبقة: 

- الحرص على تدعيم العمل الصحفي بالبراهين والوثائق التي تؤكد المعلومات الواردة بما لا يدع مجالًا للشك، وتفحص سلامته قانونيًا قبل النشر. 

- تثبيت تحديثات الحماية أولًا بأول على جميع الأجهزة الإلكترونية، والثقيف الذاتي حول الأمن السيبراني، وبناء كلمات مرور عصية أمام الاختراق، وما إلى ذلك من تعليمات أمنية إلكترونية. 

- تقييد وصول العامة إلى الصور والمعلومات الشخصية التي تبدو بسيطة أو حذفها تمامًا من الإنترنت، لإعاقة عمليات التعقب الإلكترونية. 

- تجنب نشر المعلومات الحساسة، كرقم البطاقة الوطنية أو رقم هاتفك المستخدم أو تفاصيل السكن. 

- تنزيل تطبيقات الهاتف من مصادر موثوقة، والحرص على قراءة سياسة الخصوصية قبل استخدام التطبيقات ومراجعتها على الدوام كونها قابلة للتعديل من قبل المالك. 

- المتابعة عن قرب - إن أمكن - لآليات فحص الهاتف أثناء المرور عن مناطق العبور والفحص في المطارات. 

ثالثًا، الحدود الرقمية: 

ويمكن تعريف الحدود الرقمية للصحفيين: بأنها مجموعة الضوابط التي يتعين على الصحفي العمل وفقها للحفاظ على صحته النفسية أثناء استخدام التقنيات الرقمية وتطبيقات التواصل الاجتماعي. 

وتبرز أهمية الحدود الرقمية في: 

- حماية الصحفي من الإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية، كإجراء احترازي من اعتلالات نفسية يسببها ما يعرف اليوم بـ"الإدمان الرقمي". 

- دفع الصحفي للتفاعل مع أنشطة فنية وممارسة هواياته المفضلة، بعيدًا عن التحديق المتواصل بشاشات الأجهزة الإلكترونية، بما يساهم في تعزيز المشاعر الإيجابية عند الصحفي. 

- مساعدة الصحفي المنهمك في العمل بمعالجة عاداته السلبية، كعشوائية المهام وتشتت الذهن وتفقد صندوق الرسائل كل بضع دقائق. 

- حث الصحفي للبحث عن وسائل أخرى للتواصل مع أصدقائه بعيدًا عن التطبيقات الرقمية. 

- حماية الدماغ من السموم الرقمية وهوس التصفح، التي تهدر الوقت وتفاقم الضغوط النفسية وتزيد السلوكيات المرتبطة بالإدمان. 

على سبيل المثال، خلال الربع الرابع من عام 2021، أمضى المستخدمون العالميون ما يقرب من 412 مليار ساعة على وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الاتصال على الأجهزة المحمولة، وقد سجلت تطبيقات الصور والفيديو 243.6 مليار ساعة من التفاعل في جميع أنحاء العالم. 

ويمكن للصحفيين تحديد الحدود الرقمية، من خلال:  

1. التخلص من التطبيقات قليلة الجودة وعديمة النفع أو التي تستهلك وقتًا طويلًا.  

2. الالتزام بإنجاز المهام والاجتماعات في أوقات العمل المحددة، وعدم نقلها إلى المنزل. 

3. وضع مواعيد محددة لمطالعة البريد الإلكتروني واستخدام التقنيات المساعدة التي تقلل فترة استخدامه. 

4. تقليص الإشعارات الفورية والتنبيهات القادمة من هاتف العمل. 

5. الاعتدال في أوقات ومدة استخدام الهواتف الذكية والتطبيقات الرقمية لتجنب التصفح اللانهائي للمنشورات. 

6. استخدام التطبيقات التي تحث على التأمل والاستغراق الذهني وتعزز الصحة النفسية. 

7. تقليص الولوج إلى منصات التواصل أثناء السفر أو في فترة الخروج بنزهات عائلية. 

8. الفصل بين العالمين الافتراضي والواقعي، فلا ضير أن يكون للصحفي بطاقتي اتصال الأولى خاصة بالعائلة والأصدقاء، والثانية للعمل حصرًا ويتم تقييد الوصول لها عند دخول المنزل مثلًا.