تظاهرات مفاجئة في دولة ما، قرارات اقتصادية عاجلة ستغيّر الموازين، انقلاب عسكري في دولة مؤثرة، كارثة طبيعية تخلف أعدادًا كبيرة من الضحايا.. وأكثر. ما سبق مجرد أمثلة قد تعني بلغة الصحافة مزيدًا من التحديات، وفرص زيادة نسب المشاهدة أو التصفح، لكن في العمق قد يكون هناك مزيد من الضغوط على المحررين والمراسلين للخروج بأفضل محتوى. قد تكون نتيجتها التوتر المؤدي إلى الاحتراق أو الإنهاك الوظيفي، والذي قد يكون من ضمن أسبابه وجود مدراء يضغطون في العمل ولا يهتمون بجمل من نوعية "انتظر من فضلك، أنا منهك وظيفيًا"!
ورغم أنّ الإنهاك الوظيفي قد لا يمكن اكتشافه بالفحص الطبي مثل معظم الأمراض، إلا أنّ تأثيره قد يكون خطيرًا على الصحة البدنية والنفسية للعاملين في المؤسسات الصحفية والإعلامية. ويبقى السؤال؛ هل يمكن أن تحموا أنفسكم من آثار ضغوط العمل القاتلة؟ شبكة الصحفيين الدوليين ستقدم لكم هنا دليلًا كاملًا لمساعدتكم على النجاة من أي نتائج سلبية لضغوط العمل. لنبدأ!
الموت من أجل الراتب
مؤلم هو ما جاء في صفحات كتاب "الموت من أجل الراتب"، للمؤلف الأميركي جيفري فيفر، الذي وثق لحالات مختلفة لموظفين في مؤسسات وشركات، أوصلهم ضغط العمل إلى الانتحار أو الإصابة بأمراض منها ما أدى إلى موتهم. خلُص الكتاب إلى أنّ أوضاع بعض بيئات العمل الحديثة قادرة على أن توصل الموظفين إلى حالة من التوتر الذي يمكن أن ينتهي بالإحساس بالإنهاك الوظيفي أو الاحتراق الوظيفي، وهو نوع خاص من التوتر المرتبط بالعمل، يتسبب في حالة من الإرهاق البدني أو النفسي تتضمن أيضًا إحساسًا بتراجع الإنتاجية وفقدان الهوية الشخصية، والنهاية قد تكون خطيرة سواء على الصحة البدنية أو النفسية.
وقد يكون أمر بسيط مثل الرغبة في الغياب عن العمل بدون عذر منطقي، مؤشرًا على قربك من دائرة الإنهاك الوظيفي، وهذا ما كشف عنه تقرير للوكالة الأوروبية للسلامة والصحة في بيئة العمل، والتي خلصت إلى أنّ الإجهاد يؤثر على الأداء ويؤدي إلى الرغبة في التغيب عن العمل، وإذا استمر ذلك لفترة طويلة فقد يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية أو أمراض الجهاز العضلي والهيكلي.
وهناك عدة أعراض يمكن أن تساعدك على إدراك مدى قربك من منطقة الإنهاك الوظيفي، منها أن تصبح شخصًا متهكمًا أو انتقاديًّا في العمل، وتشعر بأنك "مضطر" إلى الذهاب إلى عملك وتواجه صعوبة في بدئه، وتجد أنك أصبحت انفعاليًا أو نافد الصبر مع زملائك، وتفتقر الطاقة اللازمة لتظل منتجًا، وتواجه صعوبة في التركيز، وتفتقر إلى الشعور بالرضا حيال إنجازاتك، وتشعر بخيبة أمل تجاه وظيفتك، وأنك بدأت بممارسة عادات مثل تناول الطعام أو التسوق أو تناول أنواع من العقاقير أو حتى الكحوليات ليراودك شعور بأنك أفضل، أو تشعر أنّ عاداتك في النوم تغيرت، وتشعر بصداع غير مبرر أو اضطرابات في المعدة أو الأمعاء أو أي شكاوى جسدية أخرى.
وهناك عدة أسباب للإنهاك الوظيفي، منها شعورك بالتنمر في بيئة العمل، وشعورك بقلَّة الاحترام من الزملاء، أو تدخل المدير في كل أمر صغير وكبير، إضافة إلى شعورك بأن بيئة العمل فوضوية، ما يعني حاجتك لطاقة متواصلة للحفاظ على تركيزك، كذلك إذا كان عملك يستنفد وقتك وجهدك بحيث لا تستطيع قضاء بعض الوقت مع أسرتك وأصدقائك.
وتضع "مايو كلينيك"، وهي مجموعة طبية أميركية غير هادفة للربح، عدة أفكار للتعامل مع الإنهاك الوظيفي، من ضمنها مناقشة المخاوف المحددة مع مديرك بهدف الوصول إلى تسويات أو حلول وسط، وأن تجرب طرقًا تساعدك على الاسترخاء، إضافة لممارسة بعض التمارين الرياضية، والحصول على قسط كاف من النوم، وتدريب عقلك على التركيز الذهني.
وتنصحك "مايو كلينيك" بعدم تجاهل الإنهاك الوظيفي أو عدم معالجته، لأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية ونفسية منها فرط التوتر والإصابة بمرض القلب وارتفاع ضغط الدم والإصابة بداء السكري من النوع الثاني.
رحلة البحث عن العلاج
لطالما أثار "الإنهاك الوظيفي" فضول شيماء الجمال، وهي مرشدة نفسية ومدربة حياة (Life Coach) معتمدة، وكاتبة متخصصة في الصحة النفسية صدر لها عدة كتب منها "سنة أولى نفسية"، والتي تؤمن بأنّ أبسط وأفضل حلّ للتغلب على الضغوط المستمرة في غرف الأخبار هو أن تكتب ملاحظات يومية في دفتر خاص، وتشرح في حوارها مع شبكة الصحفيين الدوليين أنه في بعض الأحيان قد لا يفهم الشخص سبب القلق الذي يغمره، لذا فإنّ إحدى الطرق التي ستساعدك على ملاحظة قلقلك هو أن يكون معك دفتر يوميات صغير تكتب فيه كل ما يثير قلقك، وحينها فأنت تقوم بما يسمى التفريغ أو الفضفضة.
تكمل الجمال أنّ تحديد مثيرات القلق والضغط بالنسبة لك هي حيلة ذكية لفهم ما يحدث، وتكمل أن كل شخص يتعرض لضغط عليه أن يستغل بضع دقائق من يومه لملاحظة وتحديد الأوقات التي كان فيها أكثر قلقًا على مدار اليوم والأسبوع، إذ يساعد تحديد مثيرات القلق على التعامل معها.
سيساعدك منح نفسك مساحة للحديث والفضفضة مع الزملاء الذين تثق بهم في أن تهدأ، هكذا تقول شيماء الجمال طالبة منك أن تحيط نفسك بأشخاص إيجابيين في بيئة العمل.
خذ نفسًا عميقًا
وفق الجمال، فإنّ احتراف تمارين التنفس يمكن أن يساعدك على التغلب على ضغوط العمل، وتنصحك في المرة القادمة التي تشعر فيها بالقلق وضيق الصدر أن تأخذ نفسًا عميقًا حتى تشعر بالهواء يندفع في رئتيك ويوسع صدرك، وحينها عليك أن تتركه يصل إلى معدتك ومن ثم تدفعه من فمك حتى لا يتبقى منه شيء داخلك، وافعل ذلك خمس مرات حتى تشعر بتحسن.
سيساعدك كذلك على الشعور بالراحة أن تحاول الابتعاد عن التهويل (Catastrophizing) وأن تعطي الموقف حجمه الحقيقي وأن تتذكر دائمًا أنّ القلق لن يدوم.
ومن المهم أن تضع لنفسك خطة للتعامل مع الشخصيات المختلفة في بيئة العمل، على سبيل المثال إذ كنت تعمل مع مدير يطلب منك بإلحاح شديد أن تنجز عملك بسرعة، فعليك في البداية التوقف لبرهة وتحديد ما إذا كان ما يطلبه المدير بإلحاح شديد عاجل وهام، أم عاجل فقط، أم هام لكنه ليس عاجل، وأن تناقش معه ذلك بهدوء.
وهذا نموذج لخطة عمل ستساعدك على التعامل مع هذا المدير:
المسؤولية: ربما عليك أن تنظر للأمر بمسؤولية؛ هل ما يطلبه المدير يقع تحت سقف مهامك الوظيفية؟ إذا كانت الإجابة نعم فربما عليك أن تقوم بالتخطيط.
القدرة: أنت الوحيد الذي يعرف قدراتك بالشكل الأمثل، هل ترى أن ما يطلبه المدير فوق قدراتك أم لا؟
الاحترام: إذا رفضت القيام بمهمة ما، فعليك أن تفعل ذلك بشكل مهذب لا يجعل المدير يشعر أنك لا تحترمه.
ولكي تستطيع أن تقول لا بشكل محترف، من المهم أن تعمل على تقوية ما يطلق عليه مهارات وضع الحدود، وهنا تنصحك شيماء الجمال بقراءة بعض الكتب المفيدة، ومنها: "الحدود" لهنري كلود، و"كيف تقول لا" لسوزان نيومان، و"كيف تقول لا بدون أن تشعر بالذنب" لباتي برايتمان وجوني هاتش، و"كيف تقول لا" لكورين سويت.
"وتذكر دائمًا أنّ وضع الحدود ليس تمردًا أو أنانية أو علامة على العصيان أو مؤشر على أنك غاضب، لكنه محاولة منك لحماية نفسك من أي أخطار محتملة للضغوط"، هكذا تقول شيماء الجمال.
عزيزي المدير: لا!
وأفضل طريقة للفت نظر مديرك إلى أن الضغط الشديد عليك أمر قد يضرك، هو استخدام أسلوب التواصل الرحيم، وأول خطواته أن تبدأ المناقشة بجملة إيجابية عن مديرك وعن بيئة العمل وعن أهمية التواصل الفعال بينكما، وهو ما يطلق عليه (The Sandwich technique).
ابدأ الجمل بكلمة "أنا" وليس أنت، وهو ما يطلق عليه (I-statement) ، فعندما تبدأ كلامك بقول "أنت تضغط علي" على سبيل المثال، يشعر الشخص بأنك توجه له اتهامًا ويصبح دفاعيًا وفي الغالب سيجعلك أنت المخطئ، واشرح الموقف كما هو بدون أن تضفي عليه وجهة نظرك الشخصية مثال "عندما طلبت مني مهمة..."، وهنا تحدث عن إحساسك وشعورك نتيجة الموقف وليس رأيك فيما حدث.
مثال: "عندما طلبت مني أن أقوم بتغطية هذا الخبر العاجل، شعرت بالقلق وبالضغط الشديد، لأنه كان لدينا خبر عاجل آخر يلزم تغطيته في الوقت نفسه، لذا سأكون شاكرًا لو سألتني مسبقًا هل سأستطيع تغطية هذا الخبر الآن، لأنني لو كنت مشغولًا بخبر آخر فربما من الأفضل أن يتولى زميل آخر مهمة تغطية هذا الخبر".
وفي نهاية النقاش اشكر مديرك على تفهمه وسعة صدره.
هدوء أثناء العاصفة
وبحسب الجمال، فإنّ الحصول على الهدوء الذهني حتى أثناء تغطية الأخبار العاجلة الهامة ولو كانت متعلقة بالكوارث، هو أمر ممكن إذا استطاع الصحفي امتلاك اليقظة الذهنية، والتي تعني تركيز الوعي على اللحظة الحالية، والانتباه إلى مشاعرك وأفكارك والبيئة المحيطة بك في الوقت الحاضر بنوع من التقبل، ويمكن لتمارين التنفس أن تساعدك على الوصول لهذه الحالة حتى في أوقات ضغوط العمل المفاجئة.
وهناك خطة عمل يمكن أن تساعدك أثناء الضغوط الشديدة، ويطلق عليها The urgent- Important Matrix، وهي طريقة كان يستخدمها الرئيس الأميركي الأسبق دوايت إيزنهاور، واشتهرت أكثر بعدما كتب عنها المؤلف ستيفن كوفي في كتابه "سبع عادات للناس الأكثر فعالية"، ويتم العمل بهذه الخطة عبر تحديد 4 محاور وتقسيم المهام وفقا لهًا، وهي:
عاجل ومهم: (افعله فورًا).
ليس عاجلًا ولكنه مهم: (خطط وضع خطة عمل).
عاجل وليس مهمًا: (تفاوض مع مديرك ويمكن أن تطلب منه تكليف شخص آخر في الفريق).
ليس عاجلًا وليس مهمًا: (لا تفكر به).
"الشخبطة" من أجل الهدوء
من حسن حظنا هناك عدة إصدارات باللغة العربية صنعت خصيصًا لمساعدتنا على التخلص من القلق والتوتر، وهي تعتمد بشكل كامل على تقنية التعبير عن النفس بالشخبطة، ومنها دفتر "دع ما يقلقك هنا" لـ"ليزا إم شاب"، وهو كتاب موجه في الأساس للمراهقين لمساعدتهم على الوصول للسلام النفسي، لكن يمكن للصحفيين استخدامه للتخلص من توتر العمل. يمتلئ الكتاب بصفحات فارغة لتملأها أنت بقلمك، وبه العديد من التدريبات والإرشادات الممتعة التي ستساعدك على التخلص من توتر العمل.
هناك كذلك كتاب "اتلف دفتر اليوميات هذا" لـ"كيري سميث"، والذي يمتلئ بصفحات تطلب منك القيام بمهام معينة، والهدف الرئيس منه أن تتخلص من كل التوتر.. وتهدأ!
يمكنكم أيضًا تجربة كتاب "صفحة واحدة في المرة" لـ"آدم. جيه.كرتز"، والذي يساعدك علي التأمل والرسم ومشاركة أفكارك، أو كما يقول شعاره "رفيق مبدع يومي".