في طفولتي أتذكر جيداً حياة الظلام التي كنا نعيشها بسبب عدم وصول الكهرباء ومصادر الطاقة إلى قريتنا التي تقع في وسط صعيد مصر -كان الأمر مرهقاً للغاية- الظلام دامس وبالكاد يستطيع أحدنا رؤية الآخر، أسرتي كما غيرها من الأسر كانت تعتمد بشكل رئيسي على المصباح المُفرد الذي يضيء بالوقود، ولا أخفيكم سراً أنه كان مزعجاً بسبب الأدخنة السيئة المُنبعثة منه، لكن وبرغم المعاناة كان هناك أمر جميل أستمتع به كل يوم. كنت أصعد إلى سطح منزلنا لرؤية النجوم تتلألأ في السماء، منظرها الرائع ينسيني دخان المصباح السيئ.
أما اليوم وبعد تطور وتنوع مصادر الطاقة أصبحت الإضاءة صاخبة للغاية، خاصةً في المدن وعواصم الدول، حتى أن هذه الإضاءة أخفت تماماً النجوم في السماء.
كتبت هذه المقدمة حتى أقرب إليكم المشكلة الكبيرة التي نواجهها الآن، ليس فقط مشكلة اختفاء النجوم خلف الأضواء الصناعية، هناك أيضاً مشكلات أخرى تبدأ من الضرر البيئي والتأثير المباشر على صحة الإنسان وتتسبب هذه الأضواء بشكل مباشر في الإصابة بأمراض كثيرة.
في هذا المقال، تقدّم شبكة الصحفيين الدوليين دليلاً شاملاً لإجراء تحقيقات في قضايا التلوث الضوئي، وتقدّم أيضاً مجموعة أدوات ونصائح ومصادر مهمة تساعد بشكل كبير في تحسين جودة العمل وتسهل الحصول على البيانات والمعلومات.
- ما هو التلوث الضوئي
نشرت البوابة البيئية لدولة الكويت موضوعاً كاملاً عن التلوث الضوئي، ذكرت فيه أن السماء في بريطانيا اختفت تماماً خلف 7.5 مليون مصباح يضاف إليها 100 ألف مصباح كل عام، وهو ما تسبب في اختفاء الليل أيضاً وليس السماء والنجوم وحسب. ويقصد بالتلوث الضوئي الانزعاج المترتب عن الإضاءة غير الطبيعية ليلًا وآثار الإنارة الإصطناعية الليلية على الإنسان والكائنات الحية الأخرى والأنظمة البيئية. ويصف العلماء التلوث الضوئي بأنّ ضرره يصل لأكثر وأبعد من التلوث البيئي والسمعي. ويعرّف العالم الألماني بيت شتراسر التلوث الضوئي علمياً بأنه "نوع مخرب من الهندسة الضوئية التي تكمل الهندسة المعمارية من حيث الشكل والمضمون".
والجدير ذكره أنّ التلوث الضوئي يؤثر بنسبة 36% على عيون حديثي الولادة، إذا ما وجدوا في مكان تكثر فيه مساحة وقوة الإضاءة، وهذا التأثير يكون سلبيًا للغاية على اكتمال نمو قرنية العين لدى الصغار، ونسبة ضيق عدسة العين الطبيعية، حيث أنّ العالم الألماني شبّه ذلك بوضع قطرات الأتروبين في العين أثناء الكشف على صحة البصر والتي من شأنها فتح عدسة العين لأقصى درجة، ثم يتحكم الطبيب بعد الكشف بإعادة إغلاقها. واتساع عدسة العين له مخاطره على قوة الإبصار، وهذا بالضبط ما يحدث للصغار والكبار أيضًا ولكن بنسبة أقل لتعرضهم للأضواء الصناعية والتلوث الضوئي.
- التلوث الضوئي وتأثيره على الصحة العامة
يوضح بحث صادر عن جهاز شؤون البيئة في مصر أضرار التلوث الضوئي على الصحة العامة، والذي يؤثر مباشرة على دورة الحياة في النهار والليل، حيث بات لا فرق بينهما، ما تسبب في تضرر جسم الإنسان الذي لم يعد يعرف متى ينام ومتى يصحو. وهذا يؤثر على الجهاز العصبي نتيجة تسبب الإضاءة في تعطيل تدفق الميلاتونين بالجسم، وهو هرمون تنتجه الغدة الصنوبرية بالمخ ويتحكم بشكل رئيسي في النوم واليقظة.
يتسبب نقص الميلاتونين في الشعور بالدوار والصداع طوال الوقت، وعدم القدرة على النوم، ويتسبب في تعريض الإنسان لسكتات قلبية ودماغية، ويُضعف الذاكرة، ويتسبب في اضطرابات نفسية وتهيج الجهاز العصبي والاكتئاب الحاد الذي يمكن أن يصل إلى الإنتحار.
يمكنكم أيضاً مشاهدة هذا الفيديو لمعرفة المزيد من الأضرار البيئية نتيجة التلوث الضوئي.
- تأثير التلوث الضوئي على الكائنات الحية الأخرى
في دراسة بحثية أجراها فريق من الباحثين الدوليين عن التلوث الضوئي، أكدت أنّ الضوء الاصطناعي ليلًا تسبب في تعطيل التلقيح الطبيعي بين النباتات. ووضعت إيفا كنوب وزملاؤها هذه النظرية على المحك في تجربة ميدانية في سويسرا، إذ عرّضوا مجموعة من النباتات الملقحة للضوء الاصطناعي في الليل وراقبوا سلوك الملقحات الليلية. وانخفضت زيارات الملقحات إلى النباتات بنسبة 62٪ في قطع الأراضي المضيئة، وانخفض إنتاج الفاكهة من قبل مصنع محوري بنسبة 13٪. وتشير النتائج إلى أنّ الضوء الاصطناعي في الليل، الذي ينتشر بمعدل يقدر بـ 6٪ سنويًا، يشكل تهديدًا آخر لصحة الملقحات العالمية.
- الأضرار البيئية للإضاءة الاصطناعية
تنام الحيوانات الليلية خلال النهار وتنشط في الليل. يغيّر التلوث الضوئي جذريًا بيئتها الليلية عن طريق تحويل الليل إلى نهار. وفقًا لعالم البحوث كريستوفر كيبا، بالنسبة للحيوانات الليلية، "فإن إدخال الضوء الاصطناعي ربما يمثل التغيير الأكثر جذرية الذي أحدثه البشر على بيئتهم".
"تستخدم الحيوانات المفترسة الضوء للصيد، والأنواع الجارحة تستخدم الظلام كغطاء"، بحسب كيبا الذي يشرح أنّه "بالقرب من المدن، أصبحت السماء الملبدة بالغيوم الآن أكثر إشراقًا بالمئات، أو حتى آلاف المرات مما كانت عليه قبل 200 عام. لقد بدأنا فقط في معرفة التأثير الجذري لهذا على البيئة الليلية".
كما يمكن أن يؤثر الوهج الناجم عن الأضواء الاصطناعية على الأراضي الرطبة التي تضمّ البرمائيات مثل الضفادع، التي تشكل الهرولة الليلية جزءًا من طقوس معيشتها. الأضواء الاصطناعية تعطل هذا النشاط الليلي، وتتسبب أيضاً في انقراض أنواع كثيرة من هذه البرمائيات.
- أضواء اصطناعية يمكن أن تؤذي السلاحف البحر
تعيش السلاحف البحرية في المحيط ولكنها تفقس ليلا على الشاطئ. أطفال السلاحف تجد البحر عن طريق الكشف عن الأفق الساطع فوق المحيط، لكن الأضواء الاصطناعية تجذبها بعيداً عن المحيط. في فلوريدا وحدها، يموت الملايين من الفقس بهذه الطريقة كل عام.
- الأضواء الاصطناعية لها آثار مدمرة على العديد من أنواع الطيور المهاجرة
كل عام يموت الملايين من الطيور التي تصطدم بالمباني والأبراج المضيئة. تعتمد الطيور المهاجرة على الإشارات من الجداول الموسمية في الوقت المناسب. يمكن أن تتسبب الأضواء الاصطناعية في هجرتها مبكرًا أو متأخراً وتفوتها الظروف المناخية المثالية للتعشيش والصيد والتزاوج وغيرها من السلوكيات.
لمعرفة المزيد عن الأضرار البيئية يمكنكم مشاهدة هذا الفيديو وقراءة هذا البحث.
- كيف يتسبب التلوث الضوئي في استهلاك الطاقة
بحسب دراسة أجرتها المؤسسة الدولية للتنمية فإن متوسط استخدام الإضاءة الليلية في شوارع أمريكا تقدر بنحو 120 تيراواط ساعة من الطاقة، ومعظمها لإضاءة الشوارع ومواقف السيارات. هذه طاقة كافية لتلبية إجمالي احتياجات مدينة نيويورك من الكهرباء لمدة عامين.
وتقدر المؤسسة الدولية للتنمية أن ما لا يقل عن 30% من جميع الإضاءة في الهواء الطلق في الولايات المتحدة وحدها يضيع، ومعظمها من الأضواء التي ليست محمية والتي تصل إلى 3.3 مليار دولار، أي ما يعادل 21 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا، ولتعويض كل هذا النقص الحاد في مستويات الأكسجين، يجب على الولايات المتحدة زراعة 875 مليون شجرة سنوياً.
- الأدوات التي تساعد في التحقيق بقضايا التلوث الضوئي
ترصد هذه الخريطة أماكن التلوث الضوئي وتظهر نسب التلوث ومصادره، تحدث بياناتها باستمرار.
طريقة رائعة للمساعدة في فهم توهج السماء وتأثيره. إنها أداة بسيطة ويمكن إضافة الملاحظات بسهولة عن طريق الهاتف الذكي أو الكمبيوتر اللوحي أو الكمبيوتر.
المميز في هذا التطبيق هو أنه يمكنكم استخدام كاميرات هواتفكم وتوجيهها نحو السماء وسيقوم هذا التطبيق بمعالجة الصور وقياس نسبة التلوث، بالإضافة إلى أنه يتيح مجموعة كبيرة من البيانات التي يمكنكم تحميلها بسهولة في صيغ مختلفة.
مشروع تقني يتابع تطورات الإضاءة في كل مدن العالم ليلاً، يمكنكم المشاركة فيه والحصول على البيانات والصور والدراسات والإحصائيات وغيرها من المعلومات المُحدثة بشكل يومي.
- كيف يتجنب الصحفيون مخاطر التلوث الضوئي؟
- الحد من استخدام الإضاءة في المنزل إلا للضرورة.
- تجنب أنواع الإضاءة الصاخبة التي يمكنها أن تؤثر على العين.
- استخدام المصابيح الحديثة (LED) يمكنه الحد من مخاطر التلوث الضوئي.
- تجنب الإضاءة الزرقاء ليلاً.
- النوم في إضاءة خافتة وفي مواعيد منتظمة ويفضل صحياً أن يحرص الصحفي على النوم ليلاً.
- يمكن أن يساعد استخدام مستشعرات الحركة وأنظمة التحكم الإلكتروني في الاضاءة بالحد من مخاطر التلوث الضوئي في منازلكم.
- تجنب العمل ليلاً في المدن الصاخبة.
- الحد من السهرات في أماكن شديدة الإضاءة.
- تقليل استخدام الأجهزة والهواتف ليلاً.
- يفضل صحياً الإبتعاد عن أي مصدر ضوء (تليفزيون - هاتف - لابتوب) قبل ساعتين من النوم.
- يمكنكم معرفة قياسات الإضاءة والمصابيح والأدوات المناسبة عبر هذا البرنامج من شركة فيلبس.
الصورة الرئيسية من تصوير فيتالي كوشنير بترخيص بيكسلز