في الوقت الذي يتعرّض فيه الصحفيون للمضايقات والتهديدات ويدفع صحفيون وصحفيات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حياتهم ثمنًا لتمكين الحقيقة وكشف الفساد وزيادة الشفافية وتعزيز المساءلة، باتَ من الضروري إبراز الوظيفة الرقابية للصحافة وتنفيذها من خلال الأبحاث والتدقيق والتحقق من أجل تغطيات أعمق تساهم في خدمة المجتمعات وتلعب دورًا حاسمًا في العملية الديمقراطية وتساعد المواطنين على اتخاذ خيارات مستنيرة في صناديق الاقتراع، وذلك من خلال نشر الصحفيين النتائج التي يتوصلون إليها بدون تأثير أو خوف من الانتقام، وهو مؤشّر على أنّ الدولة فيها وسائل إعلام قوية ومستقلة، بعكس قادة الدول الاستبدادية الذين يجعلون الصحافة الاستقصائية والمستقلّة هدفًا رئيسيًا بمجرد وصولهم إلى السلطة.
من خلال تحقيقاتهم، يسلّط الصحفيون الاستقصائيون الضوء على معلومات جديدة ومثيرة لاهتمام المواطنين في كثير من الأحيان، ممّا يطلعهم على تصرفات الحكومات والمسؤولين ويكشف ما إذا كان هناك فساد أو انتهاك للقواعد العامّة، وكيف يؤثر ذلك على المجتمع. ولهذا السبب أيضًا تولي الأنظمة الاستبدادية أهمية لإسكات الصحفيين الذين يكرّسون أوقاتهم للمراقبة والتحقق ولإخضاع وسائل الإعلام لسيطرتها.
وتزيد صعوبة العملية الرقابية في الوقت الذي تُشير "مراسلون بلا حدود" في تقريرٍ أصدرته عن التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي يُقَيِّم ظروف ممارسة النشاط الإعلامي في 180 بلداً، إلى أنّ الوضع "خطير للغاية" في 31 بلداً، و"صعب" في 42، و"إشكالي" في 55، في حين أنه "جيد" أو "جيد نوعاً ما" في 52 بلداً. وبعبارة أخرى، فإنّ ظروف ممارسة العمل الصحفي مُزرية في 7 بلدان من أصل 10، ومُرضية في 3 بلدان فقط من أصل 10.
توازيًا، تظهر تقارير لجنة حماية الصحفيين بدقة الوفيات والإصابات والمفقودين في فلسطين ولبنان، مع مراعاة توثيق شامل للصحفيين الذين تضرروا أثناء النزاع المستمر، وأوضحت في آخر تحديث لها في 17 ديسمبر/كانون الأول 2023 مقتل 57 صحفيًا فلسطينيًا و3 لبنانيين.
تعزيز الوظيفة الرقابية للصحافة، نشر ثقافة المساءلة، حماية الصحفي لنفسه في الدول الاستبدادية، وأسئلة أخرى حملناها لرنا الصبّاغ، كبيرة محرّري "مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد" (OCCRP) في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي لفتت إلى أنّ "الحكومات تراقب الصحفيين عبر الفضاء الافتراضي حول العالم"، وأوضحت أنّ "دور الصحفي هو السلطة الرابعة ومن واجباته مراقبة السلطتين التشريعية والتنفيذية والانتهاكات والإخفاقات والنجاحات لمصلحة المواطن دافع الضريبة ومن واجباته تقديم معلومات موثقة وصحيحة من أجل مساعدة المواطن على اتخاذ قرارات بناءً على معلومات واضحة وحقائق متينة".
وشدّدت الصباغ على أنّ "الدور التقليدي للصحفي يتراجع في خضم وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أنها منصات بديلة للحشد والديمقراطية في الأنظمة القمعية وغير القمعية"، وأشارت إلى أنّ صحافة المواطن مكمّلة لعمل الصحفي والمصادر المفتوحة تعدّ من الأدوات المُساعدة أيضًا.
وأكدت الصبّاغ التي شاركت في تأسيس منظمة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وأدارتها على مدى 14 عامًا على ضرورة أن يتحقق الصحفي من أي وثيقة مسرّبة يحصل عليها وألا يُسرع لنشرها، وقالت: "لينجو الصحفي من المساءلة يجب ألا يكتب حرفًا إلا بعد التحقق والتأكد وذلك من خلال ثلاثة مصادر غير معرّفة أو مصدر واحد معرّف بالاسم ويتحمل مسؤولية أقواله، كما يجب على الصحفي احترام خصوصية الأشخاص والمسؤولين الذين يلاحقهم بتحقيقاته لكشف فسادهم، ويجب أن يعرف المسؤولون أنهم تحت المساءلة طالما هم في خدمة المواطنين. كذلك يوجد حق الردّ، ويجب توثيقه بشكل مكتوب أو عبر الإيميل أو بالبريد".
وأوضحت الصبّاغ أنّ "ليس كل صحفي هو صحفي استقصائي، والصحفي الاستقصائي يجب أن يراكم سنوات من الخبرة بدءًا من كيفية جمع المعلومات الى تحليلها حتى استنباط الخلاصات وقراءة بيانات الشركات والميزانيات والقضايا القانونية"، كما أكدت أنّ "اللغات مهمة جدًا في تطوير الذات وقراءة الوثائق والصحفي يجب أن يصبح له سجل وتراكم خبرات".
كما نوّهت إلى دور المحرر الاستقصائي والمدقق القانوني، معتبرةً أنّ "دور المحرر الاستقصائي مهم للغاية لأنه يشبه المدرب الذي يدرب شخصًا يتمتع بلياقة بدنية كبيرة ولكنه يرغب بأن يصبح ملاكمًا محترفًا". وشددت على أهمية العلاقة بين المحرر والصحفي الاستقصائي لتحديد زاوية الموضوع ووضع خطة العمل وتفاصيلها، ولا يجوز أن يعمل أي صحفي على موضوع بحال كان يهدد حياته أو يعرضه لإعاقة، وقبل أن يبدأ الصحفي في العمل يجب أن يُخبر مديره المباشر بالتفاصيل وليس إعداد تقرير من دون معرفة المدير. ومن الضروري أيضًا تقدير المخاطر، معرفة طرق الرقابة ومراقبة المراقبين، أساليب الرقابة الجسدية، كيف يعرف الصحفي أنه مراقب، وماذا يفعل عندما يريد مقابلة صحفي هو نفسه مراقبًا، وأكدت أنّه على كل مؤسسة تقديم دورة عن أمن وسلامة الصحفيين، فهناك تفاصيل صغيرة مهمة لسلامة الصحفيين، الذين يخدمون مجتمعاتهم.
وخلال حديثها لشبكة الصحفيين الدوليين، أوضحت أنّه يتمّ تصنيف القصص قبل انطلاق الصحفي بتحقيقه، وفقًا لمعيار القصص المهمة جدًا، قصص أقل أهمية، قصص صعبة جدًا وقصص أقل صعوبة، وقالت: "بعض القصص سهلة التتبع مثل قضايا التعليم، الصحة، المياه، البيئة، وغالبية المصادر متاحة وسهلة الوصول، أما القصص الصعبة والمهمة جدًا تكون فيها المصادر صعبة الوصول وتكون مرتبطة بالفساد والجريمة المنظمة وتهريب البشر، سرقة داخل المؤسسات، خطف، ممارسات قضائية داخلية، ممارسات أمنية، بهذه الحالة يعرف شخصان فقط بالفساد، وهذه القصص فيها نسبة مخاطر عالية".
وشدّدت الصبّاغ على ضرورة الالتزام بأخلاقيات المهنة، مثل عدم انتهاك حقوق الإنسان، احترام خصوصية منزل المسؤول وحياته الخاصة، حيث على الصحفي معرفة الحق المتاح والحق المباح وما هو ممنوع، مثلًا على الصحفي ألا يكتب عن قضية قيد النظر في المحاكم، ومن الممكن الذهاب إلى محامٍ طرف بالقضية للحديث، وهنا هو من يتحمّل مسؤولية أقواله وليس الصحفي.
وعن الموارد التي يمكن أن يعود إليها الصحفيون، ذكرت الصبّاغ smex للحماية الرقمية، citizen lab لفحص الهاتف إن كان مخترقًا، الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية وشبكة الصحفيين الدوليين، من بين المراجع التي تفيد الصحفيين.
في السياق نفسه، اجتمع خبراء في المؤتمر العالمي للصحافة الاستقصائية الذي أُقيم في مدينة غوتنبرغ، السويد، وجرى الحديث عن ممارسة الصحافة في الأماكن الصعبة والدول الاستبدادية، حيثُ تطرّقت ماريا تيريزا رونديروس، المؤسسة المشاركة لكليب إلى الرقابة الذاتية وأهمية الفرق الصحفية العابرة للحدود التي تتقاسم المهام والمسؤوليات.
من جهته، قال هاسيبور رحمن، وهو مدير تنفيذي في MRDI "إنّ الصحافة ليست جريمة وهي تحت التهديد ونحن نسعى إلى بيئة إعلامية حرة ومتنوعة تسهل الأخبار والتحقيقات العابرة للحدود"، مشددًا على القيام بالعمل الصحفي بدقة والالتزام بأخلاقيات المهنة. ولفت إلى أنّ "التعديلات القانونية التي تتحكم بالصحفيين مثل قانون الأمن الرقمي أو السيبراني تعدّ من التحديات الكبرى، حيث يفيد بحث أجراه مركز دراسات الحوكمة أنّ هناك قضايا مرفوعة بسبب هذا القانون، وإذا قمنا بتحليل آخر انتخابات نجد أنّ هذا النوع من القوانين يأتي للسيطرة على غرف الأخبار، أما التحدي الآخر فهو التأثيرات الخارجية من وكالات مختلفة، وثقة الجمهور بغرف الأخبار وتراجعها".
كما تطرّقت كورتني رادش وهي مدافعة عن حرية التعبير إلى أننا جميعًا نعمل على الانترنت الآن، وقالت: "بدأت بالعمل الصحفي في الشرق الأوسط وهو مكان صعب نوعًا ما، حيث يوجد سياسيون ومعلنون، ومن خلال بعض الأبحاث التي كنت أقوم بها وما سمعته من الصحفيين فإنّ الضغط يتزايد بظل ارتفاع الاستقطاب والاستبداد وتراجع الديمقراطية، وتغير المناخ والطريقة التي تصل بها الى جمهورك تعتمد على القرارات الخوارزمية وسياسات منصات التواصل، كما أنّ هناك رقابة على بعض المصطلحات"، وأوضحت أنّ "ما سبق يشكّل تحديًا للصحفيين في المنفى الذين يريدون الوصول الى جمهورهم، وكيف يمكن تخزين البيانات الضخمة بشكل آمن". وتابعت أنّ "بعض القوانين التي من المفترض أن تحمي حقوق الطبع والنشر وقوانين الخصوصية يتم استخدامها كسلاح بوجه وسائل الإعلام المستقلة".