بين القصص الجادة كالأخبار السياسية والتحقيقات الإستقصائية والتقارير الميدانية والقصص التي لا تدخل في عمق القصة كأخبار المنوعات والحوارات مع المشاهير والريبورتاجات التي تعرّف بمدينة ما. هناك نوع آخر من القصص يظهر من حيث الإسم أنه ينتمي إلى الجزء الثاني الخفيف، بينما من حيث العمق ينتمي إلى الصنف الأول الجاد، ونتحدث هنا عن القصص الإنسانية، التي تتعدّى وظيفتها مجرّد الاحتفاء بإنسان ما حقق نجاحاً، إلى الكشف عن واقع فئات مهمة من البشر تعيش أوضاعاً صعبة لا تلتقطها في الغالب كاميرات الصحفيين.
نجحت الصحافة الإنسانية خلال السنوات الأخيرة من فرض ذاتها في كبريات الجرائد العالمية، واستطاعت أن تنال حيّزًا من مجالات جوائز الصحافة عبر العالم، وكمثال جائزة الصحافة العربية في دبي التي تعرّف هذا الصنف من الصحافة بتلك "التحقيقات أو التقارير التي تتناول قضايا أو أزمات إنسانية طارئة وملحّة، وما ينتج من تداعيات الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والآفات وانتهاكات حقوق الإنسان".
تسمّى أحيانًا الصحافة الإنسانية بالصحافة ذات البعد الإجتماعي بعيداً عن أخبار الحوادث والجرائم واحتجاجات السكان والاختلالات في المشاريع، إنها صحافة ترّكز على عمق الإنسان وتجعله مركز الإهتمام في القصة وليس شيئاً آخر، ويشهد الإعلام عبر العالم نماذج إعلام إنساني ترّكز في القصص الواقعية. برنامج أوبرا وينفري على سبيل المثال، ونماذج صحافة إنسانية ركّزت على قضايا عديدة، منها مآسي اللاّجئين.
ويقدم مقال على مجلة "بريس غازيت" الخاصة بعالم الصحافة، عدداً من أنواع الصحافة الإنسانية، منها قصص من يساعدون الآخرين، الإنجازات الفردية، أمثلة للشجاعة والتضحية، لقاء أقارب أو أحبة بعد غياب طويل، ضحايا الحوادث والأمراض.. ويمكن القول إن هذه الأمثلة تتيح إنجاز قصص إنسانية بسيطة، بينما يمكن إنجاز قصص إنسانية أعمق عندما يتم التركيز على القضايا الكبرى أو الأزمات الضخمة كضحايا الحروب.
ونعثر على نصائح مهمة لإنجاز القصص الإنسانية في دليل "القصص ذات البعد الإنساني" الذي نشره الهلال الأحمر الأمريكي وخدمات الإغاثة الكاثوليكية عام 2008، فرغم أن الدليل موجه بالدرجة الأولى إلى المنظمات التطوعية الخاصة لأجل إنجاز قصص إنسانية في إطار مشاريعها الخيرية، إلّا أن النصائح تصدق كذلك على العمل الصحفي ذو العلاقة مع هذه القصص.
ويهمنا في هذا الدليل المعايير الأخلاقية الواردة في التعامل مع الناس الذين يكوّنون مركز القصص الإنسانية، ومن ذلك تجنب ما قد يسبّب الأذى لهم، كخرق حقوقهم في الخصوصية عبر طرح أسئلة حول مواضيع حساسة ومحرجة، والتعامل مع جيرانهم دون إشعارهم، ونشر معلومات خاصة أدلوا بها دون أن يدركوا خصوصيتها، وعدم احترام المحيط الاجتماعي والثقافي للناس عند الحديث إليهم، مثلاً ارتداء لباس مثير أو وضع رموز دينية تخالف معتقداتهم.
وتعدّ الصور أحد أهم مفاتيح نجاح القصص الإنسانية، فهي من تتيح التعرّف عن كثب على مركز القصة المكتوبة، وكثيراً ما ضاعت قصص إنسانية بسبب انعدام أو ضعف الصور والعكس صحيح لدرجة أن الصورة لوحدها قد تخلق قصة إنسانية دون الحاجة إلى استعمال قواعد الكتابة الصحفية، (راجع هذه المقالة)، لذلك أضحى لازماً، على الصحفي العامل في المجال الإلكتروني، أن يكون ملمّاً بالتصوير عبر كاميرا احترافية أو نصف احترافية، ليس فقط للقصص الإنسانية، بل للقصص الصحفية عموماً.
يقدم دليل "القصص ذات البعد الإنساني" مجموعة من النصائح المهمة في صور القصص الإنسانية:
أوّلها: طلب الإذن، فليس منح إذن لإجراء الحوار وسيلة عبور مباشرة لالتقاط الصور
ثانياً: احترام المحيط الاجتماعي والثقافي، فهناك مثلًا مجتمعات ترفض التقاط صور للنساء
ثالثاً: خلق محيط من الثقة بين الصحفيين والشخص مركز القصة، وجعل هذا الأخير هو من يقرّر متى تؤخذ له الصور
رابعاً: البحث عن أماكن معبّرة ذات دلالة قويّة للحضور كخلفية في الصور
خامساً: التقاط صور تشرح وتقوّي القصة
سادساً: الحرص على توازن الألوان في الصورة وبين الخلفية والموضوع
أمّا سابعاً: التمرّن على التقاط صور البورتريه في الكاميرا بحيث تكون اللقطة مكبرّة وتشمل التفاصيل الدقيقة للوجه مع التركيز على العينين، بينما تتجلى النصيحة الأخيرة في تقديم نسخ من الصور للموضوع، فكثيراً ما لا تتوفر الانترنت للأشخاص الساكنين في المناطق النائية، لذلك يعد استخراج الصورة وإرسالها لموضوع القصة بشكل مباشر، هدية جميلة تبيّن أن الصحفي متشبع هو الآخر بثقافة المشاركة الإنسانية.
بالنسبة لطريقة الكتابة، يمكن القول إن طريقة كتابة البروفايل الصحفي تنجح في القصص الإنسانية وتنجح كذلك طريقة كتابة الحوارات غير المباشرة بجعل أقوال الشخص تستحوذ على جل القصة، كما تنجح طريقة كتابة الريبورتاجات أو التقارير الميدانية، وأحيانًا يتطوّر الأمر لطريقة كتابة التحقيق الصحفي إن كان في القصة كشف لخروقات كبيرة ما، هي كلها تقنيات يمكن الاسترشاد بها لكتابة القصة الإنسانية حسب قوتها وأثرها والمجهود المبذول فيها.
الصورة من تصوير اسماعيل عزام.