تخيّل معنا هذا المشهد؛ صحفي يسافر إلى مدينة شرم الشيخ المصرية لتغطية فعاليات مؤتمر المناخ "COP27" والتي ستعقد في تشرين الثاني/نوفمبر، وبمجرد وصوله إلى مقر المؤتمر، يبدأ في استهلاك عدد كبير من زجاجات المياه البلاستيكية، ويتجول في المدينة بسيارة ذات عادم مضر للبيئة، ويضع حاجياته في أكياس بلاستيكية غير قابلة للتحلل، وبعد كل ذلك يكتب للمجتمع قصة صحفية عن أزمة المناخ في عالمنا! المشهد مليء بالتناقضات، أليس كذلك؟
ما سبق مجرد مشهد تخيلي، لكنه يطرح سؤالًا هامًا؛ هل كل صحفي مكلف بتغطية مؤتمر المناخ، هو في الأصل يحب ويحترم البيئة ويعرف ما يضرها حتى لا يستخدمه أو على الأقل يبحث عن بدائل له؟ فالمهم هو أن تكون متعاطفًا مع البيئة. في هذا المقال ستصبحكم شبكة الصحفيين في رحلة خاصة جدًا، نثق أنكم ستعودون منها وأنتم أصدقاء للبيئة.
قللوا بصمتكم الكربونية
أمام مكتب خاص في منزلها بمحافظة الجيزة المصرية، تجلس الصحفية المصرية المستقلة ومؤسسة مبادرة "مدرسة المناخ"، رحمة ضياء، لتنهي قصة صحفية جديدة لها. ترى ضياء الحائزة على عدة جوائز منها جائزة هيكل للصحافة العربية لعام 2019، وجائزة "تغطية المناخ الآن" الدولية لعام 2021 أنّ عملها من المنزل يساهم في تقليل بصمتها الكربونية (Carbon Footprint) - يقصد بالمصطلح القيام بخطوات فعالة للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون - إذ أنها لا تستخدم وسائل مواصلات للتوجه إلى العمل كل يوم، وليست مضطرة لاستهلاك منتجات وموارد كثيرة من الشارع مثل شراء الطعام والمشروبات خلال ساعات عملها الطويلة.
في حوارها مع شبكة الصحفيين الدوليين، أشارت ضياء إلى أنّ هناك مؤسسات صحفية اختارت أن توقف إصداراتها المطبوعة وتكتفي بإصدارات إلكترونية، معتبرة أن هذا يعني تقليل صناعة الصحافة لبصمتها الكربونية على الكوكب، إذ أن هذه المؤسسات ستتجنب هكذا الاستخدام المبالغ فيه للورق ولكل تفاصيل عمليات الطباعة، وحتى عمليات توزيع الصحف بما تتضمنه من انبعاثات ناتجة عن عمليات النقل وغيرها من الأمور المضرة للبيئة، لكن لا يعني هذا من وجهة نظرها أن تختفي الإصدارات المطبوعة، إذ ترى أن هناك تجربة يابانية ملهمة، قامت بها صحيفة "Mainichi"، التي تصنع أوراقها من ورق قابل للتدوير يحتوي بداخله على بذور، وحبرها نفسه يستخدم كسماد لتخصيب التربة عند زرع الورقة بداخلها، وكل ما عليك فعله عند الانتهاء من قراءة الصحيفة هو تمزيق الورق ثم وضعه في التربة مع بعض الماء، وبعد مرور بضعة أسابيع ستتحول الأخبار التي قرأتها إلى نباتات وزهور!
تقول ضياء إنها تتمنى أن تكون كل الورش أو المؤتمرات التي يحضرها الصحفيون صديقة للبيئة، بمعنى أن تكون كل المنتجات المتوفرة بها من أقلام وأوراق وحقائب وغيرها من التفاصيل مصنوعة من مواد معاد تدويرها وقابلة للتحلل، وأن يستخدم كل صحفي أدوات في عمله صديقة للبيئة مثل أقلام الحبر المصنوعة من الخشب وليس من البلاستيك، وأن يستخدم في مقر عمله قنينة ماء تستخدم لمرات عديدة، مثل العبوات المصنوعة من الزجاج، وهي عكس عبوات الماء البلاستيكية التي تستخدم لمرة واحدة ثم تلقى في النفايات، إضافة إلى تقليل استخدام الورق بأكبر قدر، وإذا كان يفضل الكتابة على الورق فيمكن أن يستخدم الورق الذي يعاد تدويره.
"الكتابة على الهواتف أو الحواسيب هي حلّ أفضل للبيئة من استخدام الأوراق والأقلام"، هكذا تؤمن ضياء وتضيف أنّ "العمل من المنزل يمكن أن يساعد في حماية البيئة، لكن إذا لم يتوفر للصحفي فرصة عمل من المنزل فيمكن أن يقلل من استهلاك الموارد في مؤسسته بأكبر قدر، وهذا في حد ذاته يمكن أن يقلل من التكاليف التي تنفقها المؤسسات وبالتالي نحن نحافظ على مهنة الصحافة حين نفعل ذلك"، وتكمل أنه على المؤسسات الصحفية أيضًا أن تكون مقراتها نفسها صديقة للبيئة، تستخدم أدوات إضاءة موفرة، وتقلل من استهلاك الكهرباء قدر الإمكان، أو تستعين بالطاقة الشمسية وتوفر لصحفييها موارد صديقة للبيئة.
"الاهتمام بالبيئة لم يعد رفاهية فهو يحافظ على البشرية، وهذا يعني أنك حين تكون صديقًا للبيئة فأنت تحافظ على نفسك وعلى مستقبلك"، هكذا تختم رحمة ضياء حديثها معنا وتعود لتكمل قصتها الصحفية الجديدة.
عليكم بالمصادر المفتوحة
يرى الصحفي والمدرب الإعلامي في قضايا تغير المناخ إسلام الزيني، والذي ساهم في العالم 2017 مع منظمة كلايمت تراكر الدولية في تدريب عدد من الصحفيين العرب للكتابة عن قضايا المناخ، أنّ الاعتماد على المصادر المفتوحة يعدّ أحد أفضل الطرق التي تجعل الصحفي صديقًا مخلصًا للبيئة، ويضيف أنّ الاستعانة بتطبيقات الاجتماعات يمكن أن يساعد في جمع أكبر عدد من الصحفيين معًا في نفس الوقت من دون أن يضطروا لحجز تذاكر سفر أو التنقل في الطرق بوسائل مواصلات مختلفة بكل ما يعنيه هذا من ضرر للبيئة، كما سيقلل أمورًا مضرة أخرى مثل استخدام مكيفات الهواء أو حجز غرف في الفنادق وغيرها.
لكن هل يعني ذلك التوقف تمامًا عن التجمع على أرض الواقع والاكتفاء بالتجمعات الافتراضية؟ يقول الزيني إنّ الأمر هنا تحدده القيمة من التجمع، على سبيل المثال إذا كان هناك مؤتمر مثل مؤتمر المناخ COP27 أو ورشة ستجمع عددًا كبيرًا من الصحفيين وتحتاج بالفعل لتواصل على الأرض كي تكون النتيجة النهائية أفضل فهذا أمر إيجابي، خصوصًا إذا كانت مخرجات الورشة ستجعل الحضور من الصحفيين يقدمون في المستقبل قصصًا صحفية تعالج قضايا بيئية ملحة، فالهدف هنا نبيل وفي خدمة البيئة على المدى الطويل وتأثير قصص الصحفيين في علاج هذه القضايا قد يفوق التكلفة البيئية من الورشة. لكن من المهم أن يكون التجمع نفسه صديقًا للبيئة، فلا داعي لاستخدام منتجات من البلاستيك، أو حقائب غير قابلة للتحلل، أو توزيع أوراق وأقلام بدون داع، وهكذا.
يضيف الزيني أنّ المصادر المفتوحة في العمل الصحفي هي أمر مفيد للبيئة بدرجة كبيرة، على سبيل المثال يمكن استخدام تطبيقات خاصة بالعمل من المنزل تجعل إنتاجية الصحفي أفضل من أن يذهب بشكل يومي تقليدي إلى مقر العمل. كما يقترح على المؤسسات زيادة الاستثمار فيما يطلق عليه "الصحفي الشامل"، ففي عالم سريع يتوق للوصول الى الأخبار ببساطة واختصار، يمكن الصحفي تعلم المهارات التي يحتاجها لإنتاج قصته كاملة بنفسه مثل التقاط صور جيدة بدون الحاجة للاستعانة بمصور محترف، وهذا بدوره يمكن أن يقلل عدد فريق العمل المضطر للتنقل واستهلاك الموارد.
ويكمل الزيني أنه حتى أثناء عمل الصحفي داخل مؤسسته، يمكنه استخدام مصادر مفتوحة تجعله قادرًا على صناعة "إنفوجراف" بنفسه من دون الاستعانة بمصمم جرافيك، وينطبق الأمر نفسه مع تحرير مقاطع الصوت والفيديو.
"على الصحفي أن يحب البيئة بشكل حقيقي وألا يفعل ذلك بشكل مصطنع أو لأنّ الأمر أصبح "تريند"، لأنه عندما يحتضن مفهوم الاستدامة ويتعايش معه سيجد نفسه يشتري ملابس أقل، وسيرفض الأشياء غير الضرورية، وسيبحث عن بدائل صديقة للبيئة. كما يمكن للمؤسسات الاستثمار في الأجهزة الإلكترونية المستعملة مثل الكمبيوتر إذا كانت بحالة جيدة عوضًا عن شراء الجديدة، وهو ما يدفع الشركات لإنتاج المزيد منها، يقول إسلام الزيني، ويكمل أنّه حين يكون الصحفي صديقًا للبيئة فذلك يمكن أن يحمي صناعة الصحافة نفسها على المدى البعيد، ويشرح أن ترشيد الاستهلاك داخل المؤسسات سيقلل التكلفة بالنسبة للمؤسسة، وهذا يمكن أن يساعدها على الاستمرارية.
مصادر ستجعلكم أصدقاء للبيئة
إذا كنتم من عشاق الكتب، فلا يفوتكم الاطلاع على كتاب "Zero Waste Home" للناشطة البيئية بيا جونسون، وهو كتاب موجه في الأساس لجميع الناس، لكن يمكن للصحفيين استخدامه كدليل لأسلوب حياة خالٍ من النفايات، خاصة وأنّ الكاتبة ترى أن المنزل يمكن أن يكون أجمل وأهدأ ويساعد صاحبه على إنتاجية أفضل وأفكار إبداعية أكثر حين يكون خاليًا من النفايات.
تنصحكم الكاتبة بتقليل الممارسات الاستهلاكية في حياتكم، وأن تشتروا فقط ما تحتاجونه بشكل حقيقي، وأن ترفضوا الحصول على المطبوعات المجانية والأدوات المكتبية التي توزع في الورش والمؤتمرات ما دمتم لا تحتاجونها، وأن تمتلكوا حقيبة من القماش تضعون فيها ما تشترونه من المتاجر حتى تقللوا استهلاك البلاستيك، وأن تتجنبوا شراء ما يصعب إعادة تدويره، وهذا يمكن أن يجبر الشركات على إعادة تصميم المنتجات بشكل أفضل، وأن تتوقفوا عن شراء مستحضرات التجميل المضرة واستبدالها ببدائل طبيعية.
ولو كنتم من عشاق مشاهدة الفيديوهات والمنشورات القصيرة، فيمكن لحساب "حياة مستدامة" أن يعجبكم، والذي أسسه الناشط البيئي مصطفى مجدي، ويقدم من خلاله فيديوهات عملية ونصائح مفيدة عن تقليل النفقات وعدم الجري وراء الرغبات الاستهلاكية، وعدم التسبب في أي ضرر للبيئة.
هواة مشاهدة الأفلام لا يجب أن يفوتهم الاطلاع على مقال لشبكة الصحفيين الدوليين قدّم عرضًا لمجموعة من أهم الأفلام الوثائقية عن الكوكب (تجدونه هنا).
وأخيرًا..
ضع في حقيبتك المصنوعة من مواد صديقة للبيئة مجموعة من البذور، وانثر منها في أي مكان مناسب تكون فيه، كي تترك أثرًا!