شهدت تونس عقب ثورة 14 كانون الثاني/ يناير 2011 طفرة في المجال الإعلامي، تُرجم بتضاعف المؤسسات الإعلامية في القطاع السمعي والبصري والمكتوب والإلكتروني. تنتمي هذه المؤسسات الصحفية لمختلف الأطياف السياسية وبلغ عددها التقريبي 39 قناة تلفزيونية وقرابة 50 إذاعة و229 صحيفة بين يومية وأسبوعية وشهرية، بالمقارنة مع عددها قبل 2011 الذي لم تتجاوز فيه وسائل الإعلام 4 قنوات و14 إذاعة وفي حدود 30 صحيفة.
أمّا اليوم وبعد قرابة 6 سنوات، تراجع عدد المؤسسات الإعلامية لنجد القنوات في حدود 13 قناة بين المتخصصة والجامعة و16 إذاعة جديدة من بينها الجهوية والمحلية، أما عدد الصحف فقد بلغ 45 صحيفة بلغ عدد الصحف اليومية منها 11 صحيفة و22 صحيفة أسبوعية و8 شهرية وواحدة نصف شهرية.
هل هي حرية إعلامية أم مجرد بطاقات ملصقة؟
تحتل تونس المرتبة الأولى عربياً في التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2016 والسادسة والتسعين عالمياً بعد أن كانت تحتل المرتبة 126 سنة 2015. ولكن ذلك لا يعبّر عن واقع الإعلام في تونس حيث يرى خبراء اتصال أن حرية الإعلام لا تزال مجرد بطاقات ملصقة لا تعبّر عن واقع الإعلام الحر.
"المضمون الإعلامي في تونس لا يمكن تصنيفه ضمن الإعلام"، هكذا اعتبر مدير وحدة التنسيق المركزي للإذاعات التونسية والأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار الدكتور نور الدين الحاج محمود. وأضاف "أن ما يقدمه الإعلاميين لا يرتقي الى درجة الإعلام بمفهوم السلطة الرابعة،" مشيراً الى أن تونس تعيش مرحلة انتقالية طبيعية لا يمكن الحديث فيها عن حرية الإعلام.
وتحدّث نور الدين في ذات السياق، أن بعض ما عاشه الصحفيين التونسيين من مضايقات بعد الثورة من منع تغطية بعض الأحداث أو احتكارها من مؤسسة دون أخرى وكذلك رفض التصريح لمؤسسة بحد ذاتها خاصةً اذا كان توجهها ضد الشخص المستجوب، قد حدد بلا شك مستوى هذه الحرية.
ومن أكثر الأمثلة وضوحاً على ذلك تعود لعام 2013 عندما بلغ مستوى الحد من الحريات درجة السجن. حيث تم سجن الصحفي زياد الهاني على خلفية التهمة الموجهة إليه، وهي نسب أمور غير قانونية لموظف عمومي متعلقة بوظيفته دون الإدلاء بما يثبت صحة ذلك، وسط احتجاجات عدد من الصحفيين والحقوقيين الذين اعتبروا أن هذه المحاكمة غير قانونية لأنّها تخدم مصالح حزبية معينة، ودخل عدد منهم في اعتصام مفتوح يومها.
ومن أعمال العنف التي تعرّض لها عدد من الصحفيين أثناء تغطية العمليّة الإرهابيّة التي ضربت العاصمة تونس واستهدفت حافلة تقلّ أمنيين، حيث تمّ تبرير عملية استهداف الصحافيّين المتواجدين في منطقة الحادث بدعوى الظرف النفسيّ وحالة الفوضى وأولويّة التركيز على أبعاد الحادث وخطر الإرهاب. في حين أن الضرر قد وقع مستهدفاً الصحفيّين رغم إظهارهم لبطاقاتهم المهنيّة.
وكان هذا واحداً من المؤشرات على استغلال الحرب على الإرهاب والعمليات الإرهابية للتضييق على عمل الصحفيين ووسائل الإعلام. واعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في بيان عقب الحادثة، أنّه لا يمكن مواجهة الإرهاب والتطرف في ظل انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية وأهمها حرية العمل الصحفي.
ومن جانبه، اعتبر الصحفي التونسي بقناة الزيتونة المنطلقة عقب الثورة، لطفي النايب، أن الحرية الذي ميزت قطاع الإعلام منذ أكثر من 5 سنوات واجهت صعوبات عدة على غرار الفهم الخاطئ. فتُرجم ذلك عبر استغلال مفهوم الحرية لأهداف خاصة وتطويعها سلباً في تصفية حسابات سياسية وأيديولوجية، مشيراً في السياق ذاته إلى أن الكثير ممن يمثلون سلطة الإعلام أصيبوا "بتخمة الحرية" وأصبح الكل يقول كلمته والكل يناقش، ممّا أضر من جودة المادة الإعلامية المقدّمة.
هذا وقال رئيس تحرير إذاعة "صراحة أف أم" المنبعثة عقب 2011 هشام حاجي، إن مخاطر تقييد الحريات لا تزال موجودة لأن الإعلام يبقى دائماً رهين التجاذبات ويخضع ولو بدرجات متفاوتة لتأثير التمويل والإشهار، مشيراً إلى تجربته في إذاعة جديدة مع شباب أكثر إصراراً على التمتع بحريتهم والدفاع عنها رغم العراقيل.
هياكل جديدة للرقابة أم لممارسة حرية مسؤولة!
يتكون المشهد الإعلامي من وسائل إعلامية بين المرخصة وغير المرخّصة مما خلق لا توازن وفوضى ترجمت في مضمون إعلامي غير مراقب بلغ حدّ 'التحريض'. ما استدعى تأسيس هياكل جديدة لتنظيم القطاع بتشكيل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري في مايو 2013، وهي هيئة تعديلية تعنى بتنظيم قطاع الإعلام وإسناد التراخيص وتعيين مسؤولي القنوات الإذاعية والتلفزيونية وحماية استقلاليتها إزاء السلطات.
كما ساهم المرسومان 115 و 116، الواردان في الرائد الرسمي في نوفمبر 2011، بشكل كبير في تعديل القطاع السمعي والبصري من خلال العمل على استقلالية لجنة إسناد بطاقة الصحفي المحترف وتقديم إجراءات قانونية جديّة في المجال الجزائي.
وفي المقابل، يرى إعلاميون تونسيون أن المشهد الحالي تتخلّله مخاوف من عودة فترة ما قبل الثورة وهي مخاوف مشروعة في ظل التطورات الحاصلة اليوم ومحاولات القمع وإخضاع المؤسسات لأجندات معينة. كما أنّ البرامج التي تبثّ تثبت هذه الفرضية خاصة وأن الكل يبحث عن التموقع وسط مشهد متقلّب تتصارع فيه وسائل الإعلام بين الكيفي والكمي.
وقالت رئيس المرصد الوطني للصحفيين التونسيين هبة عقوبي أن التقصي والمتابعة الذي يقوم به هذا الهيكل أمر صعب ويحتاج الى الدقة في ظل ضعف القوانين والتشريعات المنظّمة للمجال الإعلامي نحو إرساء إعلام حر ونزيه ووضع حدّ لحالة الفوضى التي بات عليها القطاع.
معادلة الكم والنوع ما زالت مطروحة
وحول تسارع نسق الإعلام من تنوع الوسائل والمضمون ومدى مجاراته، أوضح الدكتور نور الدين حاج محمود أن هذه الفترة تتميّز بتصارع المعلومات خاصة في المجال الإلكتروني؛ ليكون مستقبل الإتصال يُترجم تزايد المواقع الإلكترونية واعتمادها مصدراً للمعلومة بالمقارنة مع المنظومات الإعلامية التقليدية كالإذاعة والتلفزيون.
هذا التنوع في وسائل الإعلام عكس بعض الاختلاف في الرسالة الإعلامية ولو بشكل جزئي، الأمر الذي اعتبره الصحفي لطفي النايب غير اعتيادي بالنسبة الى المتلقي التونسي بعد سنوات من الخطاب الواحد ليجد نفسه أمام كمّ هائل من الرسائل الإعلامية توصله لدرجة "التخمة".
الصحفية بإذاعة "كاب أف أم" الجهوية الخاصة عائشة الغربي، أكدت لشبكة الصحفيين الدوليين أن الحديث عن التعددية الإعلامية رهين الحديث عن مجتمع ديمقراطي يؤمن بالتشاركية وتعدد الآراء والمواقف ولكن لا يعكس ضرورة نوعية على مستوى المضمون. وفي بعض الأحيان لا ينتج عن هذا التعدد جودة في التغطية والمعالجة بقدر ما هو كثرة دون جدوى و "يبقى بذلك الإعلام أمام تحدي التعددية والنوعية" بحسب عائشة.
وفي حديثه عن المضمون الإعلامي بعد الثورة الذي بلغ أحياناً حدّ التحريض وتجاوز أخلاقيات المهنة، قال الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار نور الدين الحاج محمود: "أنّ في ظل المتغيرات الحاصلة في تونس تسعى بعض الأجندات الى التغذي من الإعلام عبر بث السموم". ودعى الى توفّر كافة إمكانيات الحصانة أمام هذه القوى الكبرى التي تستغلّ الإعلام من خلال العمل على تغيير المضمون الإعلامي المبطّن برسائل تدعو الى الفتنة أو الإنحلال الأخلاقي وبث خطاب مضاد عبر إنتاج أعمال إعلامية تتميّز بالمهنية والحرفية.
واقترح الصحفي بجريدة الصحافة مصباح الجدي حلاً، اعتبر فيه أنه حان الوقت لتفعيل هيئة المجلس الأعلى للصحافة ليكون دوره تعديلياً ورقابياً في حدود ما تمليه صلاحياته، خاصةً أنّ المشهد "يكسوه تغوّل البعض بمال الإشهار وتبييضه دون رقابة بشهادة تقارير هيئات وأهل المهنة".
تحمل الصورة رخصة المشاع الإبداعي لصاحبها، Gwenaël Piaser.