قد يكون أول ما جلب انتباهك في عنوان هذا المقال هو كلمة "ق$$يود" التي كُتبت بإضافة علامتي الدولار. وهذا ليس خطأ لم نتفطن له، ولكنها مثال على إحدى الطرق التي يستخدمها متصفحو/ات منصات التواصل الاجتماعي ولكن كذلك الصحفيون/ات ومدققو/ات المعلومات لتجاوز قيود الخوارزميات. وقد استخدمت بشكل كبير خلال حرب غزة أو خلال التعاطي مع محتويات قد تكون حساسة أو جدلية. إذ لا تفرق الخوارزميات بين من يدعو الناس للانتحار مثلًا، ومن ينتج قصة صحفية أو محتوى توعويًا حوله لأن عبارة "انتحار" من العبارات التي ستحظرها الخوارزميات ويتم ذلك بغض النظر عن السياق الذي جاءت فيه. ولعل العبارة الثانية التي لفتت انتباهك هي "ألغو سبيك" Algospeak التي يمكن أن نترجمها إلى لغة الخوارزميات أو لغة تجاوز الخوارزميات، بمعنى آخر كيف نتحدث لغة تتجاوز القيود والمحظورات التي تفرضها الخوارزميات.
تحدد خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي ما نتعرض له من محتويات وما نقرأه وما نتصفحه. إذ تقوم بفلترة المحتويات الضخمة التي تنشر يوميًا، وتتيح لنا طبقًا من المحتويات المنتقاة على أساس مجموعة من المحددات، مثل عمليات بحثنا وتصفحنا السابقة، واهتماماتنا وطريقة تفاعلنا مع المحتويات وبياناتنا الديمغرافية وغيرها. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بطبيعة استخداماتنا أو بفلترة وعرض محتويات تدفعنا للبقاء أكثر على هذه المنصات بدون مغادرتها، بل الأمر أيضًا مرتبط بما يشبه حراسة بوابة متواصلة تقوم بتحديد المحتويات التي تبقى وتلك التي تحظر والمحتويات التي تصل إلى أكبر عدد من المتابعين وتلك التي لا تتجاوز حدود ناشريها. بعض هذه الأمور مرتبط بإدارة المحتوى العنيف أو الإباحي، ولكنها أيضًا مرتبطة بإدارة المحتوى من وجهة نظر سياسية أو انطلاقًا مما تعتبره هذه المؤسسات التكنولوجية الضخمة سليمًا أو غير سليم إيديولوجيًا وسياسيًا وفكريًا.
نقاط.. إيموجي أو رموز
لتجاوز هذه القيود التي تفرضها الخوارزميات قد لا يتطلب الأمر أكثر من نقطة أو مسافة أو إيموجي أو رمز وهكذا تصبح الكلمة أو العبارة أو الفكرة مختلفة تمامًا عن تلك التي تتعرف عليها ترصدها الخوارزميات. فمثلا بدل أن تكتب "فلسطين" يمكن أن تكتب فل. سطين أو فل* سطين أو غيرها من العبارات والكلمات التي تدخل فيها رموز أو علامات ترقيم أو حتى مساحات إضافية، فتتحول الكلمة الواحدة إلى كلمتين مثلا. وهذا ينطبق على عبارات أخرى مثل "الإرهاب" و"المقاومة" و"الانتحار" وغيرها.
"الألغو سبيك" أو Algorithm Speak ظهر بالخصوص خلال جائحة كوفيد19 على منصة تيك توك وغيرها من المنصات، فبدل استخدام عبارة Covid-19 تم استبدالها بعبارات مثل Panini وPanda Express بحسب "واشنطن بوست". فيمكن أن يتجاوز الأمر مجرد إضافات بسيطة على الكلمة بل اعتماد عبارات وكلمات جديدة لنشر المحتوى أو حتى كتابة عبارات منافية تمامًا لما يؤمن به صاحب الحساب واستخدامها مطية للسخرية أو النقد أو مجرد التعبير. وقد تستلهم هذه اللغة آلياتها الرمزية مما يسمى اللغة الإيسوبية Aesopian language والتي تقوم على إيصال رسالة إلى مجموعة معينة ممن لديهم دراية وفهم لمسألة معينة، من دون أن يكون غير العارف بها قادرًا على تفكيك رموزها بل يفهم معنى مختلفًا تمامًا عن المعنى الخفي. وهذا ما يجعل ممارسة هذه اللغة برموزها يتجاوز فكرة التلاعب بطريقة كتابة الكلمات إلى البحث عن إيصال معنى واضح قد يكون مغلفًا ضمن معاني أخرى لا تستطيع الخوارزميات تفكيكها.
ولكن "الألغو سبيك" ليس الأول من نوعه بل هو امتداد لممارسات أخرى في الفضاء الرقمي كما توضح هذه الدراسة فقد سبقه Textspeak حيث يتم التخلي عن قواعد كثيرة في الكتابة مثل الاستغناء عن المد أو المساحات بين الكلمات واختصارها وLeetspeak الذي يقوم على استبدال الحروف بالأرقام وLolspeak ويتمثل في استخدام قواعد لغوية غير سلمية من أجل المزاح.
ويمكن لـ"الألغو سبيك" حسب الدراسة أن"يشبه الاختلافات الإملائية والمعجمية والصوتية للغة ومع ذلك، فإن الدافع وراء ذلك عادةً هو التأثيرات الجغرافية، أو الاجتماعية الثقافية، أو السياسية على هويات المستخدمين عبر الإنترنت للإشارة إلى عضوية مجتمع والاحتفاظ بها".
فمجموعة الكلمات والعبارات والرموز التي يطورها المستخدمون/ات تهدف إلى خلق لغة جديدة مفهومة فيما بينهم، ولكنها تسمح لهم في الآن ذاته بحماية محتوياتهم من الحذف أو تقليل الوصول وهي ليست حكرًا على المستخدمين/ا العاديين/ات أو المؤثرين/ات، فقد استخدمت أيضًا من قبل صحفيين/ات لحماية محتواهم من الحظر. وهي أيضًا ممارسة لجأت لها منصات تدقيق المعلومات التي كانت تدقق محتوى متعلقًا بحرب غزة مثلًا.
الخوارزميات.. تتطور باستمرار
يستند "الألغو سبيك" إلى عناصر أساسية وهي البساطة والسهولة و الإبداع والقابلية للفهم. فلا تكون الرموز المختارة معقدة بل مستمدة من رمزيات يمكن أن يفهمها غالبية المعنيين بها. فتقوم هذه اللغة على استخدام الأرقام والنقاط والرموز والايموجي من أجل تغيير طريقة كتابة معنى معين أو طريقة التعبير عن فكرة معينة كما ذكرنا سابقًا. فمثلًا يختصر هذا الإيموجي 🍉🍉 ألوان العلم الفلسطيني ويستخدم ليرمز لفسلطين ولكنه مجرد فاكهة بالنهاية. هذه الرمزية التي باتت تكتسبها بعض هذه الصور والتعبيرات والأشكال والأرقام أعطتها في الحقيقة معنيين المعنى الأول هو ربطها بفكرة أو قضية والمعنى الثاني أننا أصبحنا على الفضاء الذي تحكمه الخوارزميات نتحدث لغة ونفهم بعضنا البعض، ونحن نستبطن ضمنيًا أننا في فضاء لا يسمح بذلك. الأمر شبيه بمحاولات الهروب من الرقابة في رواية 1984 ولكننا نعرف ماذا يحدث في نهاية الرواية. تتطور الخوارزميات بشكل مستمر، وقد تكون بعض العبارات الناجعة بالأمس غير مفيدة اليوم لتجاوز القيود.
ولكن ميزة "الألغو سبيك" تكمن بالقدرة على الإبداع والتأقلم مع التغيرات. كما أنه يخاطب العقل البشري القادر على فهم وتفكيك الرموز. فنحن قادرون مثلًا على قراءة نص كامل مكون من كلمات غير مرتبة الأحرف لأن طريقة رؤية الدماغ للحروف والكلمات مختلفة عن طريقة مسح الآلة لها. والشيء الثاني الذي نتميز به هو أننا نفهم ما وراء الكلمات، فهل يتعلق الأمر بعبارات إساءة أو تقليل من شأن شخص ما أو مزاح أو سخرية أو دعم أو تأييد لفكرة معينة. فنفس الجملة أو العبارة يمكن أن تفهم بعشرات الطرق المختلفة، طبقًا للسياق الذي جاءت فيه. وهذا السياق مطاطي يتوسع إلى أن يشمل حتى المواقف العامة من مسألة أو قضية معينة. وضمن هذا السياق تصبح للكلمات معان ودلالات مختلفة عن تلك التي تنطق بها الحروف.
ولكن "الألغو سبيك" لا يستخدم دائمًا لخدمة القضايا العادلة. فنظرًا لسهولته وقابلية انتشاره، يستخدم أيضًا في خدمة التضليل ونشر الأفكار المتطرفة وحملات التشويه وخطاب الكراهية. فمتابعة تطور هذه اللغة ولكن أيضًا تطور الخوارزميات ذو أهمية بالغة بالنسبة للصحفيين/ات لضمان وصول محتواهم من جهة ولرصد المحتويات الأخرى التي تستغل "الألغو سبيك" التي يمكن أن تكون مصادر لأفكار لإنتاج مواد صحفية. ومثلما نحتاج إلى التربية على الإعلام والمعلومة نحتاج أيضًا إلى التربية على الخوارزميات Algorithm Literacy لنعرف كيف نتعامل معها ونواكب تطورها المستمر سواء أن كنا صحفيين/ات أو مدققي/ات معلومات أو مستخدمين/ات عاديين/ات.
الصورة الرئيسية منتجة بواسطة ChatGPT.